تشابكات المتنافسين: هل تطيح أهداف القوى الدولية فى السويداء بـ"الشرع"؟

لم يكن القصف الذى استهدف قلب دمشق مجرد غارة تُضاف إلى سجل الغارات الإسرائيلية قبل سقوط الأسد وبعده، بل كانت لحظة انكشاف عميقة تتغير فيه خرائط النفوذ، وتُختبر فيها توازنات ما بعد الأسد.
فلم تعد سوريا فى طور السقوط، بل فى طور إعادة التكوين، لا وفق إرادة أبنائها بل وفق مقاسات اللاعبين المتبقين على الطاولة، وما بدا أنه مجرد رد على حادث أمنى، لم يكن سوى عرضُ علنى لتحول كان يتشكل منذ أشهر تحت الطاولة حتى انفجر فوقها، لحظة انكشاف فى لحظة مشبعةٍ بالتناقضات، ومفتوحة على شتى الاحتمالات. لقد هبطت الصورايخ الإسرائيلية على قلب دمشق كإعلان صريح، بأن أية تفاهمات مزعومة لا تصمد أمام نَهْم القوة وحسابات الأمن الوجودى لدولة الاحتلال. كما أن ما حدث فى السويداء وما تلاه لم يكن ضربةُ عابرة، بل تجسيداً فجاً لحرب الوكالة، يختلط فيها الطموح التركى بحسابات الأمن القومى الاسرائيلى كما تراه وتحدده أورشليم، على أرض أنهكتها صفقات التطبيع السرية، التى يعلمها العالم أجمع، والمساومات الدولية والإقليمية.
ووفقًا لدراسة أعدها مركز رع للدراسات الاستراتيجية، لقد كانت بعض العواصم تراهن على لحاق سوريا بقطار الاتفاقات الابراهيمية، بينما الضربات الاسرائيلية تعلن أن لا شراكة حقيقية بين أطرافِ تتصارع على الجغرافيا السورية، وترسم خطوط النفوذ بالنار والدماء، فما الذى حدث فى السويداء؟ وكيف إتخذ الشرع قرار التدخل فى السويداء ؟ وكيف تحول الصراع فى السويداء وعليها إلى لعبة أمم؟ وهل تطيح تلك اللعبة بالسلطة السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع؟
ماذا حدث فى السويداء؟:
حتى وقت قريب، كانت السويداء محافظةُ هادئة، فقد نجت من الحرب الأهلية السورية وأهوالها، كما امتنع النظام السورى السابق إلى حد كبير عن ممارسة القمع الذى مارسه فى بقية أنحاء البلاد، وفى عام 2023 سيطرت الجماعات المسلحة الدرزية على المنطقة بحكم الأمر الواقع، وعقب سقوط النظام فى ديسمبر 2024 احتفظت هذه الجماعات وأبرزها رجال الكرامة ولواء الجبل بمواقعها، مما وفر للمنطقة شبه استقلال.
لقد أعرب العديد من الزعماء الروحيين للدروز وأبرزهم الشيخ حكمت الهجرى عن مخاوفهم الشديدة من الماضى الجهادى للسلطة الجديدة فى دمشق، وتفاقمت تلك المخاوف عندما قامت القوات الحكومية والموالية لها بالاضافة إلى المدنيين المسلحين بالرد على هجمات موالون للنظام السابق فى مارس الماضى، بقتل ما يقرب من 1500 مدنى علوى وسط سوريا وساحلها، كما اندلعت أواخر إبريل وأوائل مايو اشتباكات بين مسلحين من السنة وفصائل درزية فى ضواحى دمشق، وانطلقت أعمال عنف على خلفية تسجبل صوتى نُسب لشخصية قيادية درزية يَسُب فيه النبى محمد، مما أُودى بحياة 100شخص، ودخلت القوات الحكومية هذة المناطق.
شكلت الأزمة المفاجئة فى السويداء أحد أكبر التحديات التى واجهت سوريا ما بعد الأسد، بينما خلق العنف مخاطر إقليمبية على الرغم من أدواته وأصوله المحلية، ففى الحادى عشر من يوليو اندلعت اشتباكات بين الفصائل الدُرزية والبدوية، حيث ضرب وسرق مسلحون من البدو تاجرأ دُرزيا ً حسب أكثر الروايات شيوعاً، مما أدى إلى عملية اختطاف انتقامية من قبل عناصر درزية التى تشكل الأغلبية فى السويداء. لقد طلب البدو الذين يشكلون جزء من السُنة فى سوريا ويقيمون فى غرب وشرق المحافظة، المساعدة من الجماعات المسلحة المتحالفة معهم من درعا المجاورة ووسط سوريا ودير الزور، مما أدى إلى اشتباكات وسط موجة من خطاب الكراهية ضد الدروز، وهو جزء من الخطاب الطائفى ضد الأقليات الذى عَمْ سوريا منذ سقوط الأسد، ولم تتدخل السلطات السورية إلا فى اليوم الثالث للأحداث مما آثار الشكوك حول دعمها، كما آثار انتشار القوات الحكومية مصحوبة بالدبابات مخاوف من رغبة دمشق فى فرض سيطرتها على المنطقة، التى تمتعت بوضع شبه مستقل غير رسمى من أواخر الحرب الأهلية السورية التى انتهت بسقوط الأسد، كما زاد المخاوف من انتقام طائفى حيث سيطرت القوات على ضواحى مدينة السويداء، مما دفع سكانها من الدروز إلى اعتبار تلك القوات منحازة إلى المهاجمين من البدو.
لقد اتخذت الأحداث منعطفاً خطيراً عندما شَنت اسرائيل غارات جوية استهدفت قوات الحكومة السورية وعدداً من المنشآت الحيوية فى البلاد، وفى مقدمتها وزارة الدفاع السورية، وخشيةً من احتمال التصعيد الإقليمى تدخلت الولايات المتحدة الأمريكية بمساعدة تركيا للتوسط ووقف إطلاق النار بين قوات الحكومة المركزية والقوات الدرزية، وأعلن المبعوث الأمريكى توم باراك التوصل إلى هدنة ووقف الأعمال القتالية والاتفاق على تبادل كامل للرهائن، وأعلن رئيس الوزراء الاسرائيلى بنيامين نتنياهو أن اسرائيل وضعت سياسة نزع السلاح من مساحة شاسعة من الحدود تمتد من الجولان إلى جبل الدروز شرقى السويداء وأنها سوف تحمى الدروز، كما أنها سوف تسمح بدخول محدود لقوات الأمن وليست قوات عسكرية إلى السويداء مكونة مايشبه المنطقة العازلة،وفى انتقاص واضح من سلطة دمشق.
لماذا تهتم إسرائيل بالدروز؟:
على مدى قرنين من الزمان، شكًل موقف الدروز فى سوريا نموذجاً فريداً فى مقاومة الهيمنة المركزية، للحفاظ على استقلالية جبل الدروز بعيدا عن تدخلات السلطة العثمانية ومن بعدها الانتداب الفرنسى. فخلال العهد العثمانى فشلت الدولة فى دمج سكان الجبل ضمن نموذجها الإدارى والعسكرى، حيث رفض الدروز التجنيد الاجبارى، بل واعتبروا إحصاء النفوس تمهيداً لإجبارهم على الخدمة العسكرية، وقُوبل بموجات من المقاومة، كما رفضوا دفع الفدية المالية بدلاً من الخدمة، مما أدى إلى مواجهات مباشرة مع الجيش العثمانى، ونشأت لدى الدروز قناعة راسخة بأن الإندماج فى الإمبراطورية العثمانية لا يضمن لهم الحماية ولا تمثيلاً سياسياً حقيقياً فتمسكوا بإدارتهم الذاتية، ومع انهيار السلطة العثمانية وبداية مرحلة الانتداب الفرنسى حاول الدروز تنظيم علاقاتهم مع السلطة الجديدة، حيث اجتمع وجهاء الجبل وقدموا تصوراتهم عن الحكم الذاتى الادارى، وعدم فرض الخدمة العسكرية، وعدم التدخل فى الشؤون الدينية والنظام القضائى المحلى، بالإضافة إلى مطالب تنموية وتعليمية واقتصادية.
لقد استجابت فرنسا لجزء من تلك المطالب عبر إعلان دولة جبل الدروز عام 1921ضمن إطار السياسة الفرنسية فى سوريا، وتم تشكيل حكومة محلية وهيئات تمثيلية مع فصل الجبل عن ولاية دمشق، ولم تكن دولة جبل الدروز ضمن سوريا الاتحادية التى تأستت فى 28 يونيو 1922 وأُلغيت عام 1924، ولكنها أُعتبرت منطقة إدارية ضمن الدولة السورية بموجب معاهدة عام 1936 التى أُبرمت فى باريس بين الحكومة الفرنسية والوفد السورى، وعاد الجبل واندمج عام 1942 اندماجاً كاملاً فى الدولة السورية.
بعد الاستقلال عن فرنسا ظلت نظرة الدولة السورية إلى الدروز مشابهة لموقف العثمانيين والفرنسيين، فقد استمر التعامل معهم كمجموعة مذهبية منفصلة رغم الخطاب الوطنى الرسمى، وكرست سياسات البعث هذا الفصل بشكل أكثر تطرفاً، مما زاد من تعقيد علاقتهم مع السلطة المركزية، وانعكس ذلك بشكل واضح فى الحملات العسكرية التى استهدفت الدروز أبرزها حملة أديب الشيشكلى عام 1954، ثم حملة حافظ الأسد عام 1966، مما أدى إلى تدهور العلاقة بين السلطة المركزية فى دمشق والدروز، وانتهجت سلطة دمشق سياسة اختراق ممنهجة للدروز، وبلغ ذروته فى عهد الرئيس حافظ الأسد للتحكم بالديناميات الاجتماعية داخل الدروز، بهدف احكام السيطرة واستمرت تلك السياسة فى عهد بشارالأسد.
لكن مع اندلاع الثورة السورية وسقوط نظام بشار الأسد وتولى السلطة الجديدة، عادت الأسئلة القديمة لتُطرح من جديد، ما هو موقع الدروز فى الدولة السورية الجديدة؟ هل سيتم الإعتراف بخصوصيتهم؟ وجاءت الإجابة على لسان زعيم الطائفة الشيخ حكمت الهجرى الذى أعلن رفض الدستور الانتقالى الجديد واصفاً الحكومة الانتقالية بالمتطرفة، ومؤكداً أن الدروز لن تقبل بقرارات لا تضمن حقوقهم الوطنية والدينية والثقافية، مما يعكس مخاوف تاريخية لدى الدروز ويُعبر عن غياب الثقة بين المرجعيات الدرزية فى سوريا مع السلطات المركزية فى دمشق، فى ذات الوقت نجحت اسرائيل فى توظيف الهوة المتسعة وأزمة عدم الثقة بين الدروز ودمشق وحاولت استقطاب الطائفة عبر مسارات متعددة.
لقد استغلت تل أبيب التدهور المعيشى والإقتصادى فى الجنوب السورى وبدأت بتوفير فرص عمل لأبناء الطائفة الدرزية سواء فى الجولان المحتل أو داخل أراضيها، وبأجور مقبولة نسبياً، كما منحتهم امتيازات لا يحصل عليها السوريون السنًة المقيمون فى مناطق سيطرتها، مما شًكل عامل جذب براجماتى لبعض الفئات خصوصاً الشباب الباحثين عن فرص عمل، كما سعت إسرائيل إلى التقريب بين الدروز فى السويداء وأقاربهم فى الجولان المحتل فرتبت زيارات متبادلة بعد انقطاع دام لعقود وعملت على تدعيم العلاقات الاجتماعية عبر تقديم مساعدات طبية وعلاجية على الحدود بما فى ذلك نقل الحالات الحرجة للعلاج فى مستشفياتها، وقدمت كل ذلك فى شكل انسانى ولكنها تخدم أهدافاً سياسية واختراقية، ولم تكتف بذلك قدمت نفسها كضامن سياسى وأمنى للدروز، وتعهدت بحمايتهم من أى استهداف محتمل من قِبل دمشق، كما سعت إلى مد جسور التواصل مع شخصيات محلية وقادة ميدانيين غالباً من خلال وسطاء من الداخل الفليسطينى أو الجولان المحتل مما ساهم فى توطيد العلاقة مع بغض الفاعلين المحليين.
لقد حرصت إسرائيل على تقديم نفسها كحامية للطائفة الدرزية ومدافعة عن خصوصيتها العقدية، ففتحت حدودها أمام وفود دينية لزيارة قبر النبى شعيب واستقبلت مشايخ من السويداء أكثر من مرة تحت غطاء زيارات دينية فى محاولة لتعزيز الروابط الدينية والروحية والمذهبية مع الداخل الإسرائيلى وتكريس نفسها كمرجعية دينية سياسية للطائفة الدرزية، وحملت تلك الزيارات ذات الطابع الدينى أبعاداً سياسية تهدف إلى استغلال الروابط الإجتماعية بين دروز سوريا والداخل المحتل لتنفيذ مشاريع خلف الكواليس وتغذية النزعات الانفصالية والدفع باتجاه تشكيل كيان مذهبى كخطوة أولى فى مشروع تقسيم سوريا.
لعبة الأمم بالسويداء:
فى الأيام الأولى ما بعد الأسد بدأت دمشق تستيقظ على واقع جديد، تلاقت فيه الإرادات الإقليمية والدولية من الخليج إلى تركيا وإسرائيل والدول الغربية أخيراً مع رغبة المعارضة، على إنهاء عهد الأسد، ولكن ما ظنه الكثيرون نصراً لم يكن سوى إعادة ترتيب اللاعبين على الجغرافية السورية. فقد صاحب سقوط الأسد سقوط المحور الإيرانى دون ضجيج، حيث تلاشى من الجغرافيا قبل أن يُقصى من معادلات النفوذ، لم يُنتج خروجه فراغاً بل أفسح المجال أمام تنافس مكشوف بين إسرائيل وتركيا، وكل منهما يعرف جيداً أن من يُمسك بسوريا اليوم يضع أقدامه على مفصل المشرق، والمسألة لم تعد محصورة ببنية السلطة أو شكل الحكم، بل بما تمثله الجغرافيا السورية كجسر وكفاصل وكقاعدة لاعادة التكوين الإقليمى.
من هنا يمكن أن نميز بين فضائين مختلفين، تحكمهما معادلات جيوبولتيكية مختلفة، أولها ما كان يُعرف بولاية الشام وتمتد من حماة شمالاً حتى معان الأردنية جنوباً هذه الرقعة التاريخية التى كونت وحدة اقتصادية واجتماعية طوال قرون، تربط الداخل بالبادية والشام بالجزيرة والجنوب. أما ولاية حلب ذلك الامتداد السهل الخصيب بين دجلة والفرات تضم أغلبية عربية، وتشرف على السهول الممتدة بين سهول نينوى وشرق حلب، وهى جزء من منطقة أكبر ذات أغلبية كردية تم تقسيمها بين ثلاث دول تركيا والعراق وسوريا، أما دمشق فهى العقدة التى لا يمكن تجاوزها، فهى بوابة المتوسط نحو العمق العربى ونقطة العبور بين أسيا السياسية والمتوسط الاستراتيجى، من يتحكم فيها يتحكم بالايقاع والمحتوى.
فى هذا السياق لم يكن الصراع فى دمشق مجرد صراع على السلطة بل صراع على مفاتيح الجغرافيا، وكل مشروع إقليمى اليوم يعتمد على كيفية تقطيع هذه الجغرافيا أو إعادة وصلها حسب الأهواء والمصالح، فالتحولات التى أعقبت سقوط الأسد لم تترك فراغاً بقدر ما كشفت خطوط تماس بين مشروعين متناقضين لإعادة تشكيل الإقليم كلاهما يضع سوريا فى قلب المعادلة وإن اختلفت أدواته واختلف خطابة، وفى المشهد مدينتان تقومان بدور الرعاية أبو ظبى وباكو، وبالطبع فى الخلفية إسرائيل الغائب الحاضر دائماً فى كل ما يخص المنطقة، واللاعب الذى يفاوضة الجميع ويعمل له حساب، فى باكو يجرى الترتيب تحت المظلة التركية الأمنية الصريحة. الهدف هنا، هو إخراج إيران نهائيا من الجغرافية السورية، وترتيب الوضع الحدودى مع اسرائيل خصوصاً فى الجنوب السورى الذى يضم الجولان المحتل والسويداء والقنيطرة (مناطق الأغلبية الدرزية)، طُرح فتح مكتب تنسيق إسرائيلى فى دمشق دون طابع سياسى، كإشارة إلى اعتراف أمنى لا سياسى، كما طُرحت إعادة تفعيل اتفاق فك الاشتباك لعام 1974 مقابل دعم اقتصادى أذرى وتحالف غير معلن مع أنقرة، وتكون اسرائيل شريك أمنى مؤقت يخدم توازنات تركيا دون أن تتورط فى مشروعات طويلة الأجل أو تنازل مكشوف فى الملف الفلسطينى.
أما فى أبو ظبى فهناك مشروع أخر جزء من صفقة أكبر (المشروع الابراهيمى) ويقوم على حل الصراع العربى الاسرائيلى، ويشمل وقف الحرب فى غزة وإعادة اعمارها وترميم السلطة الفلسطينية وتطبيعاً اقتصادياً شاملاً مقابل إنهاء حكم حماس، والمشروع يقدم اسرائيل كشريك استراتيجى دائم داخل بنية جديدة للاقليم لا تتحدى الأمن القومى العربى ولكن تعيد تعريفه. فمنذ اللحظة الأولى لم يُمنح أحمد الشرع ترف الوقت والاختيار، فالمعادلة التى أوصلته للقصر الجمهورى فى دمشق لم تترك له سوى أن يختار ما بين المشروعين وإن حاول التلويح بالحياد وكانت الأطراف المختلفة تبنى مواقفها بناء على الطريق الذى سيسلكه الرجل، وكان طرح أبو ظبى هو الأكثر واقعية ليس فقط لتوافقه مع رؤيتها الأمنية بل بحكم الجغرافيا وموازين القوى، فالغرب السورى من درعا إلى السويداء والقنيطرة مروراً بالبادية حتى شرق الفرات أصبح فى الاستراتيجية الإسرائلية عمقاً حرجاً يجب تفريغه من أى شكل من أشكال النفوذ التركى أو وكلاء له، ولم تعد تلك الجغرافية بالنسبة لتل أبيت مجرد مساحة متنازع عليها، بل أساس وجودى لضمان التوازن، وبذلك فأى اقتراب تركى يعنى تهديداً مباشراً لمنظومة التوزان التى تعنى أن هذه الجغرافيا خارج النفوذ التركى. وعليه، كان دخول قوات الشرع إلى السويداء بعد حادثة طائفية بين الدروز والبدو انتهاك لميزان القوى الإقليمى وكشف لإنحياز الشرع تجاه محور باكو وإن لم يعلن صراحة، فالقذائف التى سقطت على مبنى رئاسة الأركان السورية وفى محيط قصر الرئاسة فى دمشق لم تكن موجهة إلى الشرع فقط بل إلى كل من يحاول اللعب بين المحورين أو لعب دور ممثل الجميع، والرسالة الأوضح إلى تركيا التى تتخذ مخابراتها من المبنى مقراً لها فى سوريا، وكانت فى جوهرها تصفية حسابات مع الاختيار الجديد للشرع، وتأكد ذلك بعد انسحاب قوات الشرع،أن الرجل لم يعد فى موقع المساومة بل ولا يصلح أن يكون أساساً لمشروع أبو ظبى.
سيناريوهات لعبة الأمم فى سوريا:
منذ الإطاحة بنظام الأسد فى أواخر العام الماضى تواجه سوريا انتقال هشاً للسلطة، وعلى الرغم من تكثيف الجهات الإقليمية والدولية الفاعلة من جهودها لتحقبق الاستقرار، لا تزال هناك تحديات جسيمة أهما الصراع الجيوسياسى بين إسرائيل وتركيا وإيران، والذى يهدد بتقويض التقدم السياسى الهش فى البلاد، بل ويهدد بتوريط الأقليات السورية-الأكراد والدروز والعلويين-فى موجه جديدة من صراعات الوكالة.
لقد صور جزء كبير من النقاش الدائر حول البعد الجيوسياسى لتغير النظام فى سوريا تركيا واسرائيل على أنهما الطرفان الرابحان، وايران وروسيا هما الخاسر الاكبر، كما تشير الرواية السائدة أن اسرائيل وتركيا المتحالفتين مع الغرب، تسْعيان إلى إحتواء ايران بينما هى تقاوم، إلا أن هذة الرؤية تُبسط الديناميكيات المتغيرة بشكل كبير.
فهناك عدة سيناريوهات لهذة المنافسة الجيوسياسية فى سوريا، فمن الممكن أن تتوصل تركيا واسرائيل إلى اتفاق لتجب الصراع وتقسيم مناطق النفوذ فى سوريا بشكل غير رسمى، وهناك احتمال فى تقارب جزئي للمصالح بين اسرائيل وإيران وإن لم يكن تنسيقاً رسمياً يتمثل فى دعم بعض الأقليات كقوة مضادة لتركيا ودمشق، حيث يرى الطرفان أن الدور التركى المتنامى لأنقرة يمثل للبلدين تهديداً استراتيجياً، ولا يمنع ذلك استمرار حالة العداء بينهما سواء فى سوريا أو مكان أخر على رقعة الشرق الأوسط،.
فمن الممكن أن تتوافق المصالح الايرانية والتركية وربما التعاون بينهما لكبح جماح نفوذ اسرائيل المتنامى، مع عدم استبعاد التنافس التاريخى بين طهران وأنقرة،كما من الممكن سعى طهران لإشعال مواجهة بين دمشق واسرائيل مع إمكانية جر تركيا إليها،
هل تُنْهى السويداء حقبة الشرع؟:
لم يعد أحمد الشرع مجرد طرف محلى بل اصبح واجهة لمحور واضح بدلالات تركية، وتطور الأحداث نحو مواجهة مفتوحة قد يُخرج الأطراف الإقليمية من التنافس الصامت على سوريا إلى إعلان كل طرف عن وجهه مما يعنى تفجير الجغرافيا السورية من جديد مما ينذر بانزلاق المنطقة كلها إلى صراعات تتجاوز حدودها، فجنوب سوريا قد يتحول إلى جنوب لبنان جديد بكل ما يعنى من نفوذ إسرائيل، أما شرقها فسوف يتحول إلى ساحة تصفية حسابات بين القوى الكبرى، وهنا تبدور الحاجة إلى التفكير خارج الصندوق والبحث عن تسوية ذكية وإن كانت مؤلمة تبدأ بإزاحة الشرع إلى الخطوط الخلفية، وتشكيل حكومة وحدة “إقليمية” ليست وطنية أساسها الأول والأخير الحياد الكامل تجاه المكونات السورية لا تتبنى أيديولوجيا وتُقَدم كألية عبور وليست جسر دائم.
ربما يكون للتردد باتخاذ هذا القرار أو الشعور بوهم امكانية إعادة ضبط الصراع دون تغييرات جوهرية ربما يؤدى إلى عودة روسيا وإيران، حيث تجدان فى الفوضى فرصة لموضع قدم على الجغرافيا السورية وإن كانت من الباب الخلفى. إن ما بعد السويداء وما تبعها من قصف لمبنى رئاسة الأركان ومحيط القصر الرئاسى ليس كما قبله، فالضربة التى هزت قلب دمشق لم تكن رداً ولا تحذيراً، بل كانت إعلاناً عن نهاية مرحلة الصمت والتهدئة والمراقبة، وبداية لمرحلة جديدة من لعبة مكشوفة ترسم فيها خطوط النفوذ بالنار ودماء الأبرياء.
لقد راهن خطأ الذين اعتبروا أحمد الشرع. سيقوم بإعادة تشكيل سوريا دون استفزاز جغرافيتها، فسوريا اليوم لم تعد قضية وطنية فقط بل إحدى أوراق بناء إقليم جديد،واسرائيل ليست فى موقع رد الفعل بل فى قلب المبادرة.
ختامًا، كادت الأيام الستة ما بين الأحد الثالث عشر من يوليو إلى السبت الذى تلاه، أن تذهب بما تبقى من النسيج المجتمعى السورى، وهو يُظهر مقاومة التمزيق التى باتت حاضرة، بعضها داخلى أو يعتمد على بيئة داخلية داعمة، تتمثل بطغيان الشعور القبلى والطائفى والمذهبى على حساب الشعور الوطنى، نتيجة تراكمات عديدة امتدت عقود هى عمر استقلال ما سُمى بالوطن السورى، وبعضها خارجى يبدو مدركاً للألية المثلى الواجب اتباعها للاستثمار فى تلك الحالة،وضمت تلك الأيام فى جنباتها أحداثاً جساماً.
فإسرائيل استهدفت مقاراً ورموز الدولة السورية بعد انتهاك ما كان من سيادتها،لأول مرة فى تاريخ الحروب العربية الاسرائيلية، على الرغم من الإعلان على لسان قادتها الجدد أنها لا تعتبر نفسها فى حالة حرب أو عداء مع إسرائيل،بل زادوا من الشعر أبياتاً عندما أعلنوا أن عدوهم مشترك فى إشارة إلى إيران وحزب الله اللبنانى،كما برزت ظاهرة العشائر التى تنادت لنصرة الدولة بشكل لم يثر الكثير من التساؤلات فقط بل الكثير من القلق حيال سياسات النظام الجديد حيال مسائل وطنية بالغة الصعوبة والخطورة، أما الأبعاد الإقليمية فى الأزمة فيصح إعتبار تجاهلها “جهلا”، إذ لا يعقل أن يعبر الذين عبروا مدججين بالسلاح على حواجز الجيش، مسافات تراوحت مابين 250-400كم دون أن يلحظهم أحد، والأشد حزناً أن تلك الظاهرة لم تكن كرد فعل على ظهور العلم الأزرق الذى تتوسطه نجمة داود على مشارف قطنا التى لا تبعد عن دمشق أكثر من 35كم.
ومع تأكيد أن الوقت يضيق أمام محاولات إنقاذ الكيان السورى، جاء بيان الرئاسة السورية وإن جاء متأخراً ليمثل مدخلاً مهما لتهدئة الأجواء فى السويداء وصولاً إلى الإعلان عن وقف اطلاق النار والذى جاء بعد ساعات من صدور البيان، وأشار البيان إلى تغير موقف النظام السورى تجاه التعاطى مع الصراع الدائر فى السويداء الذى راح ضحيته 600 شخص وفقاً لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الانسانية إضافة إلى نزوح 800 ألف شخص من مناطق سكنهم فى السويداء، ونص الاتفاق بحسب الهيئة الروحية للطائفة الدرزية ممثلة فى الشيخ حكمت الهجرى على انتشار الأمن العام خارج الحدود الإدارية لمحافظة السويداء، مع منع دخول أى جهة إلى القرى الحدودية لمدة 48 ساعة من سريان الاتفاق لاتاحة الفرصة لانتشار القوى الأمنية، والسماح لما تبقى من العشائر بالخروج الأمن والمضمون،مما مثَل تنازلاً من الحكومة السورية عن ما أُعلن من الأهداف ببيان وزارة الدفاع السورية والذى أحال الأحداث إلى الفراغ المؤسسى فى المحافظة ساهم فى تفاقم مناخ الفوضى، وانعدام القدرة على التدخل من قِبل المؤسسات الرسمية الأمنية والعسكرية مما أعاق جهود التهدئة وضبط النفس،مما أشار إلى الضغوط الخارجية التى مورست على النظام السورى للقبول بالإتفاق وليس نتيجة مراجعات، خاصةً أن هذاالاتفاق سوف يتردد صداه سريعا فى شرق الفرات،وفى أوساط قوات سوريا الديمقراطية”قسد” على وجه التحديد والتى التقطت أنفاسها وهى تراقب النتائج التى سوف يؤول اليها وضع يشبه وضعها، وقد يكون فى خلفية قرار الحكومة التعاطى مع لهيب السويداء الكثير من الاعتماد على التصريحات الأمريكية التى قاربت حد المديح فى أحيان كثيرة،والأمر نفسه ينطبق على التصريحات الايسرائيلية التى أثارت فيما يبدو لدى حكام دمشق الإرتياح، كما ظهر فى بيان مجلس الإفتاء الذى ذهب إلى وصف اسرائيل بالعدو الصهيونى الذى لا عهد له ولا ذمه، والذى يعبر عن خيبة أمل لا مجال لانكارها، مشيراً أيضا إلى الحسابات الخاطئة.