عاجل

منذ أن ظهرت أرض الصومال باتفاقيتها المثيرة للجدل مع إثيوبيا في يناير 2024 للأفق الدولي وتسبب الإقليم الانفصالي في حالة إسالة لعاب الكثير من القوى الكبيرة على مستوى العالم لاقتناص مزايا موقعه الإستراتيجي على البحر الأحمر. ولكن مؤخرا رصدت بعض التقارير والتسريبات الصحفية تحركات جديدة، حثيثة ومتنوعة وبين ما عرضته أرض الصومال وما خَلُصَت إليه سيحاول هذا المقال اثبات ما إذا كان ينطبق على الإقليم القول إنه إذا كثر الماء غرق الزرع، أم إذا سال العسل نفر الذباب.

  أرض الصومال أو صومالي لاند هي الإقليم الواقع أقصى شمال الصومال، الصومال الذي قُسم بين القوى الاستعمارية في القرن التاسع عشر. وقع الإقليم الشمالي تحت الاحتلال البريطاني والذي عُرف بالصومال البريطاني.  بينما الجنوب ومقديشيو كان يقع تحت الاحتلال الإيطالي. حصل الإقليم على استقلاله من بريطانيا في 1960 ثم دخل في اتحاد فيدرالي مع باقي الأقاليم الصومالية في ما عُرف بالصومال الكبير، ولكنه عاد وأعلن انفصاله من طرف واحد في 1991 بعد انهيار الحكومة المركزية في مقديشيو. حافظ الإقليم على استقراره السياسي بحسب كتالوج الديموقراطية الغربية كاملا: انتخابات منتظمة وتداول سلطة وتعددية حزبية. تصور الإقليم أن تفوقه في كشف علامات الغرب كافيا وحده لنيل الاعتراف به دوليا في ظل غرق الدولة الصومالية في غياهب الإرهاب والتمزق إلى الحد الذي دعا العالم لوصف الصومال بمصطلح "الدولة الفاشلة"، ولكن الإبقاء على هذه المقارنة بين الدولة وإقليمها لم يحقق هدف الإقليم في نيل الاعتراف المنشود.

  ظلت محاولات أرض الصومال محدودة بحدود قدراتها على التواصل دبلوماسيا مع القوى التوسعية في الإقليم مثل إثيوبيا وتركيا، حتى جاء الإعلان عن مذكرة التفاهم مع إثيوبيا والتي منحت إثيوبيا استئجار 20كم2 من الساحل البحري لصومالي لاند لمدة 50 عام، على أن تستخدم إثيوبيا الرصيف البحري لميناء بربرة وإقامة قاعدة عسكرية على أراضيها في مقابل الاعتراف الدولي بالإقليم دولة مستقلة. أما بعد رفض الصومال الإتفاقية وحشده لإجماع دولي على الرفض، اعتبرت في حكم اللاغية. لم تنهي أرض الصومال محاولاتها الحثيثة للحصول على ذلك الاعتراف، فرأينا أطرافا دولية كبيرة مثل مجلس اللوردات البريطاني في مارس 2024 يطالب باعتراف بريطانيا بالإقليم الذي منحه الاستقلال سابقا. ونشرت حملة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب استعدادها للاعتراف بأرض الصومال.

  أنفقت أرض الصومال الكثير من الدعاية السياسية التي استهدفت هذا الاعتراف لسنوات طويلة، ولكن سعي الإقليم مؤخرا أخذ أشكالا أكثر برجماتية. فبعد صعود ترامب للحكم، سارعت للتواصل مع إدارته في أوائل 2025، إلا أن المحادثات بين الطرفين لم تُفضي إلى أمر ملموس أو معلن، حتى نشرت جريدة الجارديان البريطانية في مايو الماضي حديثا مع الرئيس عبد الرحمن عرو، أكد فيه على أن الاعتراف بات وشيكا. تعمد التأكيد في تصريحاته للصحيفة البريطانية أن المباحثات مع المسؤولين الأمريكيين بمن فيهم دونالد ترامب اتسمت بالكثير من الجدية والانفتاح عن ذي قبل، وتخطت سياسات أمريكا القديمة في التمسك بالصومال الموحد. وأعلن عن عرضه الأضخم؛ بعد أن كانت أرض الصومال تُقدم الأرض فقط للقواعد العسكرية في مقابل الاعتراف، فتحت شهية الولايات المتحدة على ما لديها من الليثيوم والمعادن النادرة على أراضيها وعرضت صفقة المعادن الاستراتيجية والعناصر الأرضية النادرة التي تستخدم في الطاقة النظيفة والتكنولوجيا، في مقابل الاعتراف، لتنضم أرض الصومال إلى ركب الدول التي قدمت مواردها على المذبح الأمريكي للحصول على معاملة جمركية تفضيلية من واشنطن، بعد أوكرانيا وميانمار والكونغو الديموقراطية.

  جاءت المقابلة كجزء من تحرك دبلوماسي محسوب، يُراهن على التقاء المصالح بين هيرجسيا وواشنطن، خصوصا في ظل التنافس الجيوسياسي على النفوذ في القرن الإفريقي. اختيار الزمان والمكان لم يكن عشوائيًا؛ إذ جاء اللقاء في قلب مقر الحكم في أرض الصومال، وفي توقيت يشهد احتدام النقاش داخل الولايات المتحدة حول سياسات إدارة ترامب المرتقبة في أفريقيا. كما أن اختيار صحيفة الجارديان البريطانية لم يكن عشوائيا، فهو استقراء أخر لتوجه الصحافة البريطانية "الجريء" في تغطيتها المكثفة لقضايا الأقاليم الانفصالية، كما أن بريطانيا ما زالت تغازل صومالي لاند باعتبارها السلطة التي منحتها الاستقلال. وباستضافة الصحافة البريطانية تحديدًا، سعت صومالي لاند إلى توجيه رسائل دولية مزدوجة: تثبيت شرعية كيانها السياسي، وطرح نفسها كشريك استراتيجي بديل عن الدول الفاشلة في المنطقة (الصومال). هذا وتواترت الأنباء التي لا تخفيها أرض الصومال عن زيارات القادة العسكريين الأمريكيين للإقليم وتشاؤمهم من وضع الصومال الأمني الهش للحد الذي كاد أن يقنع الولايات المتحدة بغلق سفارتها في مقديشيو ووصولهم إلى قناعة تجميد تمويل عمليات مكافحة الإرهاب.

  بذلك، تحاول هارجيسا الانتقال من مربع "الكيان غير المعترف به" إلى لاعب إقليمي فاعل، يُفاوض العالم بلغة المصالح وليس بـ "استجداء" الاعتراف فقط. وهذا التحرك شديد التركيز يُخبر عن أن أرض الصومال لديها وسطاء جُدد تزامن تحركها مع مساعي وزير الدفاع البريطاني السابق جافين ويليمسون وهو من أبرز المدافعين عن الاعتراف بأرض الصومال. يرى ويليمسون أن هناك عملية موسعة تجرى في واشنطن على قدم وساق للاعتراف بأرض الصومال، وبأن مسؤولين أمريكيين أكدوا له أن الاعتراف بأرض الصومال سيحدث، لأنهم بدأوا بالفعل في التخلي عن سياسة "الصومال الواحد". وأن الاعتراف سيحدث بحلول 2028 على أبعد تقدير وينصح بأن تستبق بريطانيا الولايات المتحدة لذلك الاعتراف انطلاقا من أنها المانحة للاستقلال. وراح مجلس اللوردات البريطاني يذكر المملكة المتحدة بإسهامات جنود أرض الصومال البريطانية الجليلة إبان الحرب العالمية الثانية، بل وإضافتهم الإيجابية للمجتمع البريطاني حتى اليوم.

  بحثت أرض الصومال المشهد الأمريكي وتحسست خطواتها جيدا عندما أدركت أن سُبل الاعتراف تمر عبر مصالح الكبار، فشبكت أهدافها في شبكة المصالح الأمريكية، وجعلت من تطلعاتها امتدادا لاستراتيجيات واشنطن الجديدة التي أعطت للمعادن أولوية عندما وقعت مع أوكرانيا اتفاقية تمنحها الموارد الثمينة في مقابل مساعدتها في إعادة إعمار كييف، كما قبضت ثمن مساعيها للسلام في الكونغو؛ معادن "كعكة إفريقيا" الكونغو الديموقراطية. ولم يكن استنتاج ذلك عسيرا على أي سياسي حيث أن الساسة الأمريكيون في الكونجرس والسينت يحثون ترامب على البدء سريعا في حصد نتائج صفقاته وخصوصا المعدنية منها لأنهم في أمس الحاجة لتعزيز سلسلة توريد خاصة لهذه المعادن.

  استوعبت أرض الصومال مشروع ترامب 2025 لإفريقيا، وهو مخطط استراتيجي يهدف إلى إعادة توجيه السياسة الأمريكية في القارة نحو مقاربة أكثر قربا وواقعية، حيث تقوم على تقليص المساعدات التنموية التقليدية وتحويلها إلى استثمارات وشراكات مع القطاع الخاص الأمريكي. يركز المشروع على دعم الحكومات التي تنتهج سياسات السوق الحر والحكم الرشيد، مع تعزيز التعاون الأمني والعسكري لمواجهة التهديدات المتطرفة وموازنة النفوذ الصيني والروسي المتصاعد في إفريقيا. كما يتبنّى نهجًا محافظًا ثقافيًا، يرفض فرض أجندات أمريكية على الدول الإفريقية مثل القبول بالإجهاض وحقوق الشواذ. ومن أبرز مقترحاته الاعتراف بإقليم صومالي لاند كدولة مستقلة، في إطار سعيه لبناء تحالفات جديدة وتأمين مواقع استراتيجية حيوية في القرن الإفريقي. وذلك كله يجري مع وجود قاعدة أمريكية كبيرة بالفعل في جيبوتي المجاورة (قاعدة ليمونيير)، إلا أن القلق الأمريكي يتزايد من نفوذ العملاق الصيني خصوصا في تواجد أول وأكبر قاعدة عسكرية صينية في جيبوتي أيضا (دعم جيش التحرير الشعبي الصيني في جيبوتي) والموجودة في محيط ميناء "دوراليه" الذي تديره الشركات الصينية أيضا.

  وبالرغم من أن رئيس الإقليم نفسه عبد الرحمن محمد الله عرو اعترف بأن عواقب ذلك الاعتراف المنشود ستكون خطيرة على المنطقة المشتعلة بالفعل وخصوصا الصومال التي ستعتبرها اعتداء على سيادتها، وتزيد الخطوة من فرص تكرارها على نطاق أوسع بما إنها ستُشكل سابقة للحركات والأقاليم الانفصالية الأخرى ومن شأنه تأجيج التوترات في منطقة القرن الإفريقي، بل وفي أفريقيا ككل، إلا أنه تمادى في تقديم الكروت الرابحة على طاولة القوة المهيمنة في العالم. فهو لا يراهن الآن على مسألة الاعتراف، بل على متى ومن سيقود عملية الاعتراف!
  تحدثت تقارير إعلامية عن استفسارات غير رسمية من دول كإسرائيل والولايات المتحدة بشأن إمكانية استقبال لاجئين فلسطينيين من غزة ضمن خطط إعادة التوطين. ورغم ذكر اسم أرض الصومال في هذا السياق، إلا أن الحكومة نفت وجود أي محادثات رسمية أو اتفاقات من هذا النوع. ورغم النفي الحكومي لأي محادثات رسمية مع الولايات المتحدة أو غيرها، إلا أن موقفها من اللاجئين اتسم تاريخيا بالانفتاح والترحيب. وأشار عيدروس حسين، مسؤول إدارة شؤون اللاجئين في هرجيسيا إلى أن الفلسطينيين بدأوا بالقدوم منذ الانتفاضة الثانية، وأنهم، إلى جانب آلاف السوريين والسودانيين، وجدوا في أرض الصومال ملاذا آمنا. ورغم محدودية الموارد، تؤكد الحكومة استعدادها لتقديم المزيد، شرط أن تحظى أرض الصومال بالاعتراف الدولي الذي يفتح لها أبواب الدعم والتعاون الإنساني. وفيما يظل ملف إعادة توطين الفلسطينيين بعيدًا عن الطرح الرسمي، فإن الرسالة التي تبعث بها هرجيسيا للعالم واضحة بعد ما أفصح ترامب صراحة عن خططه لإعادة توطين المهاجرين في دول ثالثة.

      تدور هذه الأحداث تحت مراقبة الصين التي رفعت شراكتها مع الصومال إلى مستوى الشراكة الإستراتيجية في 2024، بعد أن أتمت بناء وتسليم ثمانين مشروع بتمويل وتنفيذ صيني. ولم تتوقف الصومال عن استقطاب قوى عسكرية كبيرة مثل مصر التي تناؤي الطمع الإثيوبي في الوصول إلى البحر الأحمر ودججت الصومال بالعتاد والجنود. وتركيا أيضا التي تعهدت بحماية مياه الصومال لمعاونتها على تثبيت سيادتها على كامل الأراضي الصومالية في مقابل غاز البحر الأحمر، بينما لم تحصل أرض الصومال إلا على التمنيات الطيبة والوعود المعسولة. ومع غزارة الطرح وتعدد الكروت الرابحة على الطاولة وكثافة عدد الأطراف المشاركة، حدث تلكؤ في رد فعل اللاعبين، والذي لا يُتوقع له أن يأتي وسط هذه الأمواج العاتية. نعم عرفت أوراق اللعبة لكنها لعبة الكبار ، وهى ما زالت تختبئ خلف الوسطاء مثل الصغار. 

تم نسخ الرابط