عاجل

في السنوات الأخيرة، تحوّلت منصات التواصل الاجتماعي من أدوات ترفيهية إلى قوى ناعمة فاعلة في تشكيل وعي المجتمعات، لا سيما فئة الشباب. وتتصدر منصة “تيك توك” هذا المشهد بفضل سرعة انتشارها، وسهولة استخدامها، وتنوع محتواها، . ومع تزايد استخدامها في مصر، يُثار تساؤل ملح: هل أصبح تيك توك أداة لتمكين الشباب والتعبير عن الذات، أم وسيلة لتسطيح الوعي ونشر المعلومات المضللة وتغيير منظومة القيم والسلوك لدى الشباب. ؟

مصر الأولى في إفريقيا… أرقام مقلقة

طبقًا لأحدث التقارير العالمية:
​•​بلغ عدد مستخدمي تيك توك البالغين (فوق 18 عامًا) في مصر 41.3 مليون مستخدم في 2025.
​•​تمثل مصر بذلك الدولة الأولى على مستوى إفريقيا في عدد مستخدمي المنصة.
​•​يستخدم التطبيق يوميًا ما يزيد عن نصف عدد البالغين المتصلين بالإنترنت.
​•​نسبة التفاعل والمحتوى المنتج محليًا في مصر تتفوق على متوسط إفريقيا بنسبة تزيد عن 30٪.

هذا الحجم الضخم من الاستخدام لا يعكس فقط حجم الانتشار، بل يشير إلى مدى عمق اختراق المنصة للوعي اليومي، وإعادة تشكيله

تُظهر دراسات حديثة أن تيك توك لا يُستخدم فقط كوسيلة ترفيه، بل أصبح أداة لتوجيه الآراء، سواء عن قصد أو عن طريق المحتوى العشوائي واسع الانتشار. وبينما يرى البعض أنه يمكّن الشباب من التعبير عن ذواتهم ومشاعرهم بحرية، يحذّر آخرون من مخاطره على التركيبة النفسية والثقافية للأجيال الصاعدة

نتائج الدراسات المحلية
كشفت دراسة نُشرت عام 2024 في “المجلة المصرية لبحوث الإعلام” عن توجهات الشباب المصري نحو تطبيق تيك توك، وأشارت إلى أن غالبية المستخدمين يرونه وسيلة سهلة للهروب من ضغوط الحياة اليومية، وفرصة للتعبير عن الذات دون قيود تقليدية  ، إلا أن الدراسة نبّهت إلى خطورة الإفراط في الاستخدام، حيث يؤدي ذلك إلى تشتت الانتباه وإدمان المحتوى اللحظي، مما ينعكس سلبًا على التركيز والقدرة على التفاعل العميق مع القضايا الاجتماعية أو الثقافية

في دراسة أخرى عام 2023 بمجلة “الدراسات الاجتماعية والإنسانية”، تناول الباحثون تأثير تيك توك على الفتيات القاصرات في مصر، وخلصوا إلى أن المنصة شكّلت مصدرًا للضغط النفسي  وحذّرت من الآثار النفسية السلبية المرتبطة بثقافة المقارنة، وضغط الصورة النمطية للجمال والمظهر الخارجى والنجاح السريع
والعديد منهن وقعن ضحية لمقارنات قاسية ومعايير جمال زائفة فرضها المحتوى المنتشر، مما أدى إلى ضغوط نفسية متزايدة

أما فيما يخص نشر المعلومات المضللة، فقد بيّنت دراسة أجريت عام 2022 أن البثوث الحيّة عبر تيك توك تُستخدم أحيانًا لترويج محتوى غير دقيق أو شائعات، وهو ما قد يؤدي إلى تشكيل وعي زائف أو مضلل، خاصة لدى الفئات التي لا تملك أدوات التفكير النقدي أو التحقق من المصادر

أمثلة واقعية من المحتوى وتأثيراته على الشباب المصري

في الواقع المصري، يمكن رصد تأثير تيك توك بوضوح من خلال بعض التريندات التي تنتشر بسرعة بين الشباب، مثل تحديات الرقص، المقالب، وغيرها من الفيديوهات التي تعرض تفاصيل الحياة الخاصة للمستخدمين. ورغم بساطة هذه الفيديوهات ظاهريًا، إلا أن تكرارها واحتوائها على رسائل غير مباشرة قد يسهم في تطبيع أنماط سلوكية غير متزنة، أو تعزيز ثقافة المقارنة والسطحية.

إلى جانب ذلك، تنتشر نماذج تصوّر النجاح بوصفه نتيجة للصدفة أو “التريند”، لا لجهد مستمر أو قيمة حقيقية. وهذا يُربك البوصلة لدى الشباب، ويُضعف الإيمان بأهمية التعليم والعمل والتدرّج الطبيعي في تحقيق الذات

من جهة أخرى، توجد نماذج إيجابية لمحتوى ملهم على المنصة، مثل مبادرات التوعية الصحية، أو فيديوهات تعليمية مبسطة في مجالات متعددة، أبرزها الاقتصاد، التنمية الذاتية، واللغات. لكن تظل هذه النماذج أقل انتشارًا مقارنة بالمحتوى الترفيهي السطحي الذي يتفوق من حيث التفاعل وعدد المشاهدات

مقارنة دولية – كيف تعاملت دول مثل الصين والولايات المتحدة مع تيك توك؟

تُعد الصين، البلد المنشئ لتطبيق “تيك توك” (المعروف محليًا باسم “Douyin”)، نموذجًا مثيرًا للاهتمام في كيفية ضبط المحتوى وتوجيه استخدام المنصة. فعلى عكس النسخة العالمية من التطبيق، تخضع “Douyin” لرقابة صارمة من الدولة، وتُفرض عليها قيود متعلقة بعدد ساعات الاستخدام اليومية للمراهقين، كما يتم فلترة المحتوى ليتماشى مع القيم التعليمية والوطنية. على سبيل المثال، يتم الترويج لمقاطع علمية، وطنية أو تحفيزية، بدلاً من التحديات العشوائية أو الفيديوهات التافهة.

أما في الولايات المتحدة، فقد أثار تيك توك جدلًا سياسيًا واسعًا بسبب المخاوف من جمع البيانات والتأثير على الأمن القومي. ورغم الشعبية الجارفة للتطبيق، تتخذ بعض الولايات خطوات لحظره على أجهزة الموظفين الحكوميين، كما توجد دعوات لفرض رقابة أو حتى حظره بالكامل ما لم يتم نقل ملكيته لشركة أمريكية. ورغم عدم وجود رقابة على المحتوى، إلا أن هناك تركيزًا على التثقيف الرقمي ومحاربة التضليل عبر منظمات المجتمع المدني.

وبينما تمثل الصين نموذجًا للضبط الصارم، وأمريكا نموذجًا للقلق السياسي مع ترك الحرية للمستخدم، تقف مصر في المنتصف، حيث لم تُوضع حتى الآن سياسات واضحة للتعامل مع الأثر الثقافي والنفسي المتصاعد للمنصة، رغم التحذيرات المتكررة من خبراء التربية والإعلام.

نحو بناء وعي رقمي يحمي الأجيال

إن التعامل مع تأثير تيك توك على الشباب لا يجب أن يقتصر على الخطاب التحذيري أو المنع، بل يجب أن يُبنى على رؤية متوازنة، تجمع بين التقنين والتمكين والوقاية. ويبدأ ذلك من الأسرة والمؤسسات التعليمية، التي عليها أن تتبنى خطابًا تربويًا يزرع الوعي الرقمي، ويعلّم الشباب مهارات التفكير النقدي، والتحقق من المعلومات، وتقدير القيمة الحقيقية للمحتوى.

كما أن الإعلام الرسمي، ومبادرات المجتمع المدني، مطالبون بالانخراط في معركة الوعي، عبر توفير محتوى بديل جذّاب وذو معنى. ولعل الخطوة الأهم تكمن في إشراك الشباب أنفسهم في إنتاج محتوى مسؤول، يحمل أصواتهم وقضاياهم، دون السقوط في فخ التريند

كلمه اخيره

بصفتي أستاذة جامعية أعيش تفاصيل الحياة اليومية مع الشباب، أرى وجوههم صباحًا قبل أن يفتحوا دفاترهم، وأسمع حكاياتهم اليومية قبل أن يبدأ الشرح. ولم يعد خافيًا عليّ حجم التأثير الخفي الذي تمارسه هذه المنصة على سلوكياتهم، اهتماماتهم، وحتى طموحاتهم.
العديد من الطلاب اليوم أصبحوا يقيّمون النجاح من خلال عدد المتابعين، والقبول المجتمعي من خلال عدد الإعجابات، وأصبح النموذج الذي يُقلَّد ليس هو المفكر أو العالم أو رائد الأعمال، بل ذلك الذي يحقّق انتشارًا سريعًا من خلال محتوى سطحي أو مثير، حتى وإن كان خادشًا أو مسيئًا أو بعيدًا عن قيمنا الأصيلة.

الشهرة السريعة… والمال السهل

لعلّ أكثر ما يثير القلق هو ذلك الربط غير الواعي بين الشهرة والثراء، حيث أصبح بعض الشباب يعتقد أن الطريق نحو النجاح لا يحتاج إلى دراسة أو اجتهاد، بل إلى ترند واحد أو محتوى جريء. وهذا ما يدفعنا للتساؤل:

​هل أصبحنا نربّي جيلًا يقيس ذاته بمقاطع قصيرة لا تتجاوز 30 ثاني

كلماتى التي أكررها دومًا لهم : لا تجعل الشاشة مرآتك، ولا تجعل “التريند” معيارًا لحقيقتك.  وان القيمة لا تُقاس بعدد المتابعين، بل بما تتركه من أثر حقيقي. وأن النجاح الحقيقي لا يُصنع في دقائق على الشاشة، بل في سنوات من البناء الداخلي، من الفكر، ومن الاجتهاد.

أحاول دائمًا أن أفتح معهم حوارًا صادقًا، لا لفرض وصاية، بل لزرع وعي حقيقي بأن هذه المنصات مجرد أدوات، وأن الذكاء يكمن في كيفية استخدامها، وليس في الانجراف خلف تريندات مؤقتة. أُشجعهم على التحقق من المعلومات، وممارسة النقد قبل التصديق، وأن يكونوا صُنّاع محتوى هادف، لا مجرد متلقين سلبيين.

الشباب لا يفتقر إلى الذكاء، بل يحتاج إلى توجيه صادق يفهمهم من الداخل، ويمنحهم الثقة في ذاتهم خارج معايير “اللايك” و”عدد المتابعين”. وهنا، يأتي دورنا كمجتمع في احتضانهم، وتقديم نماذج بديلة تُلهمهم، لا تُربكهم.

إن التحدي الحقيقي لا يكمن في المنصة نفسها، بل في العقل الذي يتعامل معها. وكلما نجحنا في تمكين شبابنا من أن يكونوا “مستخدمين أذكياء”، لا “مُتابعين مأسورين”، كلما كانت هذه الأداة في صالحهم، لا ضدهم

تم نسخ الرابط