من داخل ورشة بدمياط.."رخا الحداد" يحكي حكاية عمرها 60 عامًا مع الحديد

وسط صخب الحياة الحديثة وموجات التكنولوجيا التي غزت كل المهن، لا تزال بعض الحرف القديمة تقاوم الزوال، ومن بينها حرفة الحدادة، التي كانت ولا تزال ركيزة في عالم الصناعة والحياة اليومية. "نيوز رووم" كانت في زيارة خاصة إلى واحدة من أقدم ورش الحدادة في محافظة دمياط، يملكها المعلم **رخا الحداد**، الذي يُعد من أقدم وأشهر من مارسوا هذه المهنة في المحافظة.
في شارع ضيق بمدينة دمياط القديمة، يعلو صوت الطرق على الحديد، وتتصاعد رائحة النار والزيت والعرق، حيث تبدأ الحكاية. يجلس المعلم رخا، رجل تجاوز السبعين من عمره، على مقعد خشبي قديم بجوار "السندان" الذي عاش معه أكثر من خمسة عقود. عيناه تلمعان بفخر كلما تحدث عن مهنته، ويداه لا تزالان تمسكان بالمطرقة وكأن الزمن لم يمضِ.
يقول المعلم رخا:
> "أنا بدأت الشغلانة وأنا عندي ١٠ سنين. أيام ما كانت دمياط كلها ورش وحدادين، وكان اللي يعرف يشتغل حديد ده راجل بمعنى الكلمة. اشتغلت مع أبويا، وكان هو كمان حداد قديم، وعلّمني إزاي أسمع صوت الحديد وهو بيطلب إيه."
في ورشته التي لا تتجاوز بضعة أمتار، ينتج رخا كل ما يمكن تصنيعه من الحديد يدويًا، من أدوات الزراعة، إلى البوابات والأسوار، وحتى الأشكال الفنية التي يطلبها زبائنه من المحافظات المجاورة. وعلى الرغم من التطور التكنولوجي، يصر المعلم رخا على أن يظل عمله يدويًا، مؤكدًا أن "الحداد الحقيقي بيحس الحديد، وبيعرف يطوّعه بإيده مش بماكينة".
خلال جولتنا في الورشة، لاحظنا كيف يُشعل النار في الفرن اليدوي، ويغمس قطع الحديد حتى توهّجها، ثم يبدأ الطرق عليها في انسجام موسيقي أقرب إلى نغمة معتادة، يردد معها أغاني الزمن الجميل، ويتحدث إلى تلاميذه الذين لا يزال يصر على تعليمهم بالمجان.
يتذكر المعلم رخا كيف تغيرت المهنة بمرور السنين:
> "زمان كان اللي يتعلم صنعة يبقى ملك، النهاردة كله عايز يشتغل مكتب وتكييف، ومحدش بيفكر إن الشغلانة دي هي اللي بنت بيوت وخرجت أجيال متعلمة".
ورغم الصعوبات التي يواجهها، من غلاء المواد الخام، وتراجع عدد الزبائن، يؤكد الحداد العجوز أنه لن يغلق ورشته أبدًا، طالما فيه نفس وروح في جسده. يقول بابتسامة مليئة بالإصرار:
> "هفضل أشتغل لحد ما ربنا ياخد أمانته، وورشة أبويا تفضل منورة".
المثير أن المعلم رخا لا يزال يستخدم الأدوات التي ورثها عن والده، ويحتفظ في ركن من الورشة بعدد من القطع الحديدية القديمة، التي تمثل له ذاكرة تاريخية لا تُقدّر بثمن.
في نهاية الزيارة، ودّعنا المعلم رخا وهو يعود إلى عمله كأنه شاب في مقتبل العمر. تركنا خلفنا صوت المطرقة وصدى التاريخ، وشعور قوي بأن في هذه الورشة الصغيرة تكمن حكاية مصرية أصيلة عن الكفاح، والحب، والإخلاص للمهنة.