هل كانت حرب اليمن غلطة العمر لعبد الناصر؟ صفوت الديب يكشف خفايا القرار المصيري

منذ أكثر من ستة عقود، ما زال قرار الزعيم جمال عبد الناصر بالتدخل في اليمن يثير جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية والعسكرية، ليس فقط داخل مصر بل على مستوى العالم العربي بأسره، فهل كانت حرب اليمن بمثابة "غلطة العمر" لعبد الناصر، كما يصفها البعض؟ أم أنها خطوة ثورية ذات أبعاد استراتيجية لم يُفهم مغزاها جيداً في حينه؟
وقدم الخبير الاستراتيجي اللواء صفوت الديب، الذي شغل مناصب حساسة في الجيش المصري في ذلك الوقت وتابع الملف اليمني عن كثب، تحليلاً عميقاً يكشف الكثير من الحقائق المغيبة، ويربط بين القرار الناصري وبين موازين القوى في المنطقة آنذاك.
اليمن ساحة لتوسيع النفوذ العربي
وفقاً لما أكده اللواء صفوت الديب، خلال حوار ببرنامج “ حقائق واسرار ”، عبر فضائية “ صدي البلد ”، الذي يقدمة الاعلامي مصطفي بكري، مساء اليوم الجمعة، فإن جمال عبد الناصر لم يتخذ قرار التدخل في اليمن بدافع التهور أو الحماسة الثورية فقط، بل جاء القرار نتيجة قراءة دقيقة للمشهد الإقليمي.
وقد كانت المملكة المتوكلية في اليمن تمثل نظاماً إقطاعياً متخلفاً، وكانت ثورة 26 سبتمبر 1962 ضد الإمام البدر بمثابة فرصة ذهبية لدعم حركة تحرر عربية تواكب المدّ القومي، لافتا الي أن الدعم العسكري المصري للجمهوريين في اليمن جاء في سياق محاولة خلق توازن جديد مع المملكة العربية السعودية، التي كانت تعتبر اليمن عمقاً استراتيجياً لها. وبالتالي، تدخل مصر لم يكن فقط مسألة "مبدأ"، بل أيضاً محاولة لبناء جدار صدّ إقليمي ضد التمدد الملكي الخليجي، حسب تعبير الديب.
70 ألف جندي مصري وميزانية أنهكت الاقتصاد
وأشار الي أنه رغم الأهداف المعلنة للتدخل، لم تسر الأمور كما خُطط لها حيث أُرسلت القوات المصرية إلى بيئة جبلية وعرة غير مألوفة، وكان على الجيش خوض حرب استنزاف طويلة الأمد ضد القبائل الملكية المدعومة سعودياً.
وأوضح الديب أن عدد القوات المصرية التي أُرسلت إلى اليمن تجاوز 70 ألف جندي، وهو رقم ضخم آنذاك، لا سيما في ظل ضغط اقتصادي هائل تمر به البلاد. بل إن الدعم العسكري واللوجستي تطلب فتح جبهة ممتدة لسنوات، مما أدى إلى استنزاف كبير للموارد المالية، وساهم لاحقاً – بشكل غير مباشر – في تآكل قوة الجيش المصري عشية نكسة يونيو 1967.
هل أخطأ عبد الناصر في التقدير؟ تحليل استراتيجي
وقال صفوت الديب إن أكبر خطأ ارتكبه عبد الناصر لم يكن في دعم الثورة اليمنية، بل في تقدير حجم المواجهة وتداعياتها المستقبلية، ولم يكن يتوقع أن تتحول اليمن إلى "فيتنام مصر"، كما سماها بعض المحللين الغربيين، فالقوات المصرية تورطت في صراع قبلي غير متكافئ، لم يكن فيه نصر عسكري واضح، ولا حل سياسي مستدام.
وأكد أن القيادة المصرية لم تكن تمتلك تصوراً شاملاً لنهاية الحرب، وهذا ما جعل النزاع يطول ويتفاقم دون أفق محدد، فيما كانت إسرائيل تستعد بهدوء لضربتها الكبرى في سيناء.
الربط بين حرب اليمن ونكسة 1967
وخلال تقييمه للتداعيات بعيدة المدى، أشار صفوت الديب إلى أن مشاركة مصر في حرب اليمن كانت أحد العوامل التي ساهمت في إضعاف الجاهزية العسكرية المصرية على الجبهة الشرقية مع إسرائيل، فبينما كانت القوات منهمكة في حرب غير نظامية باليمن، كانت إسرائيل تستغل الوضع في إعادة تسليح جيشها والتحضير لحرب خاطفة.
وأردف أن هذا الاستنزاف العسكري ساهم في الحدّ من قدرة الردع المصرية، وأدى إلى إضعاف الجبهة الداخلية، ما جعل عبد الناصر يدخل حرب 1967 وهو في وضع أقل بكثير من الجاهزية المطلوبة.
الدروس المستفادة
وواصل اللواء صفوت الديب حديثة قائلا: إن الدرس الأهم من تجربة اليمن هو أن المبادئ لا تكفي وحدها في السياسة الدولية فحتى لو كان التدخل في اليمن يستند إلى دعم حركات تحرر مشروعة، فإن غياب الرؤية الاستراتيجية الشاملة، والاعتماد الزائد على الانفعال القومي، كل ذلك كان سبباً في انحراف المسار.
واختتم بأن مصر كان بإمكانها دعم الثورة اليمنية بوسائل أقل تكلفة، مثل التدريب العسكري والدعم الاستخباراتي، دون الانزلاق في مستنقع حرب طويلة استنزفت الطاقات وفتحت الأبواب أمام أزمات لاحقة.