عاجل

بيروت، تلك المدينة التي علّمتنا كيف نعنى على أنقاض الحرب، وتبتسم وسط الدمار، كانت بالأمس حزينة… حزينة حتى النخاع.

ودّعت ابنها المتمرّد، العازف على وتر القلب، الذي أنزل الموسيقى من علياء الأبراج الرحبانية إلى أرصفة الناس، إلى خبزهم الجاف، وهمّهم المقيم، ووجعهم المزمن.

ودّعت زياد.

 

هو ليس فقط نجل العظيمة فيروز، ولا وريث عاصي الرحباني وفنه… بل هو الكتلة الصلبة من الموهبة المصفوفة بعناد الرأي، وجمال الجملة، وجنون النغمة.

هو ابن البيت الرحباني، نعم، لكنه تمرّد على كل ما يُورث، وذهب إلى الفن كمن يذهب إلى معركة، لا ليُقلّد بل ليخلق، لا ليُطرب فقط بل ليفكر، لا ليُرضي بل ليهزّ المسلّمات من جذورها.

 

ولد زياد ومعه معجزة صغيرة ،أن تكون ابناً لأيقونة ك "فيروز"، وتختار ألا تختبئ خلف ظلّها، بل أن تصنع لنفسك صوتاً وصدى!

أن تمتلك الجرأة لتلحن لها “سألوني الناس”، وأنت لم تتجاوز السابعة عشرة ثم تمضي، لا لتغني عن القمر والليل، بل عن القهر والمخبرين وغلاء الأسعار و”الحرب الأهلية” التي كانت، وما زالت، خندقًا مفتوحاً في قلب لبنان.

 

زياد كان موسيقيا ، وصحفيا ، وسياسيا، وكاتبا مسرحيا ، وكوميديانا، وفيلسوفا شعبيا بنكهة ساخرة…

لكنه قبل كل ذلك كان “نغمة”، لا تُشله إلا نفسها، تشبه بيروت حين تُغنى، وتشبه بيروت حين تغضب، وتشبه بيروت حين تنهار ثم تقف من جديد.

 

أمس، خرجت جنازته من مسرح المدينة.لا صمت فيها، بل تصفيق وغناء ونشيج.

كأن لحظة الوداع كانت النغمة الناقصة في نوتة حياته الموسيقية.كأن جنازته لحنه الأخير، المكتمل بالحسرة.

 

غاب زياد، فانطفأت شمعة، كانت تنير “ستّ الدنيا” بنور من نوتة، وصوت من شجن، وكلمة من وجع.

غاب من كان يُحاور البيانو كما تُحاور الأم طفلها، ويعزف الحزن كما يُكتب الشعر في المقاهي المهجورة.

 

لكنّ الاشد وجعاً… أن يُغلق قلب فيروز بابًا من أبواب الحياة، وهي التي غنّت للحب، وانتظرت الغائب، وبكَت الغروب…

فأيُ وجعٍ أعظم من أن ترحل الأغنية قبل المستمع؟

وأيّ صبرٍ ذاك الذي يطلبه الله من أمّ تودّع ابنها، بعدما ودّعت شريك عمرها وصانع مجدها؟

 

زياد لم يمت…

هو فقط رحل، بهدوء العارف، وبغصّة الموجوع، لكنّه ترك خلفه فنًا لا يشيخ، ومسرحًا لا يغلق، ونكتة لا تموت، ونغمة تسكن الذاكرة.

بقي صوتُه عالقاً فينا… يُحدّثنا عن “بالنسبة لبكرا شو”، عن “نزل السرور”، عن “إسمك بالبال”، عن لبنان الذي أحبّه وكرهه في آنٍ معاً، كما لو كان وطنا من نكهة الأقدار.

 

زياد لم يمت،

بل اختار فقط أن يُكمل لحنه في الضفة الأخرى من الحياة… حيث لا يطال الموسيقى رصاص، ولا يُكمّم الإبداع بخوذة الميليشيا،

هناك… حيث تكون النغمة حرة، والكلمة بلا رقيب.

 

سلامٌ على زياد،

الذي علّمنا أن الفنّ ليس زينةً للوجوه، بل صفعة تُو

تم نسخ الرابط