عاجل

ثلاثة وسبعون عاما مرت علي حركة الضباط الأحرار، ومازال الجدل مستمر عن تلك الحركة، وبرغم أنني كتبت أكثر من مقال عن تلك الحقبة من بعض جوانبها، ومازلت عند رأيي ان تلك الفترة تحتاج الي إعادة صياغة بشكل حيادي وبعيدا عن هوي الانحياز والحب والكره.

فلا تستطيع مجادلة الناصريين فقد غلبهم هوي حب إرث عبدالناصر، بل عشق كل تاريخه بإخفاقاته وانتصاراته، ولم يروا لديه شائبة، مع انه انسان يصيب ويخطأ.

وفي الجانب الاخر من يحلل التجربة بشمولية، مدركا حجم ما فيها من إيجابيات، وسلبيات، وان سلبياتها كانت كبيرة لعظم تأثيرها على الوطن العربي وليس مصر فقط.

وان فكر عبدالناصر بعد نكسة يونيو ١٩٦٧ قد تغير وأصبح أكثر واقعية وتعلم من أخطائه، وهذا ما ظهر في الفيديو المسرب له مع القذافي في الشهر قبل الماضي، وضع كل تركيزه علي استعادة الأرض المحتلة، ومحو وصمة النكسة القاسية، وشروعه في إعادة ترتيب البيت المصري من الداخل، ومحاسبة المقصرين، واعاده هيكلة الجيش المصري، وتهيئة الشعب لمعركة النصر.

كما أننا كجيل مظلومين بسبب فوضي المذكرات الشخصية لمن عاصروا تلك الفترة، وقد كتبوها بعد رحيل جمال عبدالناصر، ومنهم من تجني عليه، ومنهم من انصفة بالثناء عليه، ولقد جمعت كثير من أقول هؤلاء من مذكراتهم لكن احتراما وتقديرا لإرث عبدالناصر لا أستطيع نشرها هنا برغم انها متاحة في كتبهم، ومنها ما هو مسجل صوت وصورة في برنامج طارق حبيب في محاوراته مع الضباط الأحرار في بداية التسعينات، والذي اعتبره وثيقة حية لتلك الفترة مع انها كانت شهادة لهوي صاحبها الشخصي.

لكن من حقنا أن نعرف حسناتها وسيئاتها، لان امتدادها بعد وفاة عبدالناصر ظل ملازما لنا الي تلك اللحظة.

السادات الذي تولي الحكم بعد وفاة عبدالناصر تجرأ عليه في كتابة البحث عن الذات، بل وجعل السينما تصور ان عهده كان ديكتاتوريا مستبدا، وعليكم بمشاهدة( احنا بتوع الاتوبيس ١٩٧٩، والكرنك ١٩٧٥ ) وغيرها من عملية التوثيق التي تنتقد نظام عبدالناصر وتخدم أجندة السادات السياسية، ليظهر السادات بصورة الرجل الديمقراطي الداعم للحرية، والديمقراطية، كاسر أقفال المعتقلات، الذي حرق التسجيلات التي كان صلاح نصر وزبانيته يقومون بها لابتزاز أصحابها.

وقام عبدالناصر بالأمر ذاته وكان فيلم (القاهرة ٣٠ ) الذي يصور فساد الحقبة الملكية، وانتشار الكتب والمقالات التي جعلت من فاروق زير نساء، يمارس كل ألوان المجون والفسق، وعبد مطيع للسفير البريطاني، يتحكم في الملك كيفما يشاء.

وفي الجانب الاخر هناك من يري مصر بعد ثورة ١٩١٩ عاشت أفضل عصورها من الليبرالية، والديمقراطية، والحرية، وكانت الحكومة (حكومة الوفد) تستطيع السيطرة علي الملك وكبح تدخلاته، وان كان الدستور يعطيه الحق في حل الحكومة.

وما بين فترة تم الغاء الأحزاب بها، ووئد التجربة الديمقراطية، والحريات، وامتلاء السجون بالمعتقلين السياسيين، ومصادرة حرية الصحافة، والتأميم لممتلكات الغير بدعوي القضاء علي الاقطاع، والاهتمام بدور الزعامة العربية والافريقية علي حساب مقدرات الوطن، ودعم حركات التحرر، وغيرها من الأمور التي انهكت الدولة المصرية، وختمت بنكسة مريرة وقاسية.

مع ان المنصفين يرون أن عبدالناصر أعاد لمصر هيبتها، وطرد المحتل الإنجليزي وانفردت مصر بقرارها السيادي، وأمم قناة السويس، وأقام مئات المصانع، وبني السد العالي، وتناسوا انه ختمها بنكسة مؤلمة ومريرة.

قد تكون تلك إيجابيات ١٨ عاما انفرد فيها عبدالناصر بحكم مصر، لكنه قتلنا جميعا يوم هزيمة ٦٧، ومازلنا نعاني من أثارها في محيطنا العربي، فتلك الهزيمة كفيلة بأن يعلق تاريخه كله، وان استطاع أن يجيب علي السؤال الوحيد منا: كيف وصلنا لتلك الهزيمة؟

الإجابة هي تشريح لعهد عبدالناصر، العاشق للسلطة، المنفرد بالقرار، جيشة الذي أنهكه في حرب اليمن، وبعض الدول الافريقية والعربية دعما لها في مقاومة الاستعمار، الثورية المنحرفة، والصوت الجهوري الذي يجذب به الاسماع، ما فعله مع رفاقه بشهادتهم في كتبهم.

هناك من نسب له مجانية التعليم مع انها متاحة في التعليم الابتدائي والتوجيهية قبل حركته، من قال انه صنع اقتصاد في بلد منعدم معدوم مع ان طلعت حرب بني صروح قبله، وما فعله يهود مصر الذين أجبروا علي ترك مصر كما صورها د أبو الغار في كتابه يهود مصر وانهم كانوا اقتصاديين فريدون ومصريون يدينون باليهودية، من أمم شركاتهم برغم ما قدموه لمصر من خدمات عبود باشا، والشبراويشي، وياسين وغيرهم كثيرون وكانوا يقيمون قلاعا اقتصادية تم تأميمها وما أصابها من سوء اداره وانهيار بعد ذلك.

مصر كانت موجودة قبل عبدالناصر، ومازلت وستظل بعد عبدالناصر وغيره من الحكام.

عندما سألت والدي هل تتذكر يوم وفاة عبدالناصر وهو من مغرميه، قال: كان يوما سيئا فقد حملنا النعش فارغا وطوفنا به كل أرجاء القرية رجالا ونساء حزنا علي رحيله.

عبدالناصر لا ننكر أنه أكتسب شعبية طاغية بعد العدوان الثلاثي، وتأميم قناة السويس، وانحيازه للطبقات الكادحة التي كانت تمثل غالبية المصريين، واصداره قانون الإصلاح الزراعي، جعل شعور المصريين تجاهه بأنه الاب الروحي لهم، وجعل اسمه يعيش في وجدان الكثيرين من العرب والمصريين حتي تلك اللحظة، و هذا ما جعل الطوفان البشري الهائل في كل الوطن العربي يبكيه يوم جنازته ويودعه الي مثواه الأخير.

رحم الله عبدالناصر

تم نسخ الرابط