عاجل

الندم هو تلك الكلمة التي تجعلنا دائماً في يأس وألم، وتقوقع داخل دوامة الحياة. والندم أيضاً يقتطع من مشاعرنا ويزيد من كآبة واقعنا. أن تندم وتتمنى أن تعود بك الأيام لتصحح شيئاً ترك هذا الشعور بالندم، فذلك هو ما تحكيه لنا صاحبة هذه الواقعة.

تقول: بعد أعوام من التشتت وشغلة الحياة، التقينا أنا وصديقات الدراسة وقررنا أن يكون أول كل شهر موعد تجمعنا ولقاءنا. كانت جلستنا تعج بالحديث عن الزمن وما فعله بنا من حوادث وفراق وأحداث جسام. كل صديقة كشفت ما بداخلها وحكت عن معاناتها في هذه الحياة وآلامها وأفراحها أيضاً.

وجاء الدور على واحدة من أهدأ الصديقات وأقلهم حديثاً وتفاعلاً منذ صغرها. فقد كنا أصدقاء منذ بداية التعليم وحتى التخرج. قالت وهي تحاول أن تخرج كلماتها بصعوبة: "لبسيني بامبرز"، ونظرت بعدها إلى الأرض وبكت، وقالت: "ليتني كنت فعلت ما طلبته مني حينذاك ووافقت عليه فوراً."

نظر إليها الجميع مندهشين منتظرين أن تكمل ما بدأته. فقالت: "كنت أنا ابنتها المفضلة من بين كل الأبناء السبعة، لأنني الوحيدة التي أكملت معها مسيرتها لفترة طويلة. فقد كنت أصغر إخوتي، وبالتالى كلهم تزوجوا قبلي، وأنا تزوجت بعد سنوات طويلة مع أمي التي كانت الأم والأب بعد وفاة أبي."

تزوجت بالقرب منها بعد موافقة زوجي، أسعده الله، الذي كان يعتبرها أماً له. وبعد أن أنجبت ابني الأول، أصبحت ملتصقة بأمي وأعيش معها، ونادراً ما أعود إلى شقتي. ومضت بي الحياة وأنجبت أبنائي الأربعة، وأخذت أمي معي في فيلتنا الجديدة في أحد المنتجعات الراقية، وعشنا أجمل السنين.

كانت أمي معي وزوجي يحيطني بكل معاني الحب والحنان، وأبنائي يزيدون من سعادتي، وأمي الغالية تتفانى في إسعادهم وإسعادنا جميعاً. ومع الزمن، كبرت أمي ولكنها تكابر في تأكيد قدرتها على عمل ما كانت تقوم به قديماً، وعلى الرغم من توافر كافة أنواع الرفاهية لدينا، إلا أنها كانت تتعب نفسها من أجلنا بصورة أو بأخرى.

قررنا السفر ورأيت أن وضعها الصحي لن يسمح لها بتحمل تبعات السفر والطريق الطويل، لذا فقد أحضرت لها جليسة مخصصة تقضي معها أيام سفرنا التي لن تتجاوز الأسبوع. وذهبت أبلغها بما سيصبح، فنظرت إلي وقالت: "خديني معاكم، متسيبينيش هنا، أنا معرفش أفتح عيني وما ألاقيش حد منكم معايا."

قلت لها وأنا أنفطر: "معلش حبيبتي، الطريق طويل وأنت عندك السكر وبتروحي الحمام كل شويه، فسيكون صعب عليك السفر." وبنظرة حزينة لم أستوعبها قالت: "لبسيني بامبرز وخديني معاك."

قبلت رأسها وقلت لها: "معلش يا ماما، المرة الجاية هنضبط الدنيا ونحجز مكان فيه طيران ونروح مع بعض، بس المرة دي سامحينا." وسافرت، ولكني لم أستطع استكمال يوماً واحداً، وتركت زوجي وأولادي وعدت إليها.

فور ما وصلت، وجدت الجليسة ممسكة بهاتفها وسألتها عن أمي، فقالت: "منذ أن تركتيها، وهي حزينة ولم تأكل وغلقت بابها عليها." جريت إليها وطرقت الباب، ولما سمعت صوتي فتحت بسرعة وهي سعيدة بعودتي، واعتذرت لها وقبلت رأسها ويديها، فقالت لي: "هتخديني معاك، صح؟"

أجبتها بسرعة: "طبعاً، وشوفي جبت معايا البامبرز أهوه يا ست الكل، وهنسافر مع بعض ومش هنسيب بعض أبداً زي ما اتعودنا." احتضنتني بقوة وقالت: "أنا بحبك."

قبل أن أجيب عليها بأنني أعشقها وأموت فيها، ماتت بين أحضاني، وتركتني أتألم وأندم لأنني لم آخذها معي، وأن موتها كان زعلاً مني وحزناً من ساعات عاشتها بدوننا جميعاً.

ندمت لأنني لم أنفذ لها ما طلبته. وإلى الآن، كلما مررت على صيدلية أو سوبر ماركت ورأيت البامبرز، أبكي بشدة وأتمنى أن يعود الزمان لأحقق لها ما طلبته. وأقول: لو فعلت ما طلبته مني، لم تموت وتركني بالندم. أخواتي جميعهم عاشوا حياتهم بدون هذا الشعور، وأنا فقط أندم وأندم وسأندم.

تم نسخ الرابط