ما المراد بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا﴾؟ الإفتاء توضح

أفادت دار الإفتاء المصرية أنه من الصفات الذميمة التي نهى عنها الشرع الشريف: التطفل على خصوصيات الناس، وتتبع عوراتهم وعيوبهم، سواء كانت خلقية أو خَلقية، لا سيما إذا كان ذلك بدافع الفضول أو بقصد الإساءة والإيذاء، دون أن يكون هناك شبهة جريمة أو داعٍ مشروع. فالبحث عن الأمور المستورة التي يستحي أصحابها من كشفها، يُعدّ نوعًا من التجسس المنهي عنه شرعًا، وقد نهى الله تعالى عن هذا الفعل صراحةً في قوله عز وجل: ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا﴾ [الحجرات: 12].
وقد فصّل العلماء في تفسير هذه الآية، ومنهم الإمام شمس الدين الخطيب الشربيني الشافعي، حيث قال في كتابه السراج المنير (4/70): “وقوله تعالى: ﴿ولا تجسَّسوا﴾ حذف منه إحدى التاءين -فالأصل: ولا تتجسسوا-، أي: لا تتبعوا عورات المسلمين ومعائبهم بالبحث عنها”.
وبناءً عليه، فإن تتبع عورات الناس وإظهار ما يُستَر من أحوالهم أمرٌ محرم شرعًا، لما فيه من أذى للناس وإفساد للمجتمع. وقد جاء النهي صريحًا عن ذلك في أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها قوله: «لَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَنَافَسُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا» رواه مسلم.
وفي حديث آخر نبوي شريف قال صلى الله عليه وآله وسلم: «يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لَا تُؤْذُوا المُسْلِمِينَ، وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ المُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ» رواه الترمذي، وهو حديث شديد التحذير لمن يتجاوز في حق المسلمين ويهتك سترهم.
وفي موقف بليغ من ابن عمر رضي الله عنهما، نظر يومًا إلى الكعبة المشرفة وقال: “ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك”، دلالةً على مكانة المؤمن وعِظم حُرمته، وأن النيل منه بالتجسس والكشف عن عوراته يُعدّ من الكبائر
الآداب والضوابط الشرعية لتنظيم معاملات الناس
لقد جاءت شريعة الإسلام لتنظيم معاملات الناس على أساس من الحق والعدل والصدق، وبما يحقق مصالحهم ضمن حدود ما أحلَّه الله تعالى. وفي الوقت ذاته، شددت على تحريم كل معاملة يشوبها الظلم أو الغش أو الربا أو سائر الرذائل الأخلاقية.
ومن أمثلة ذلك: تحريم الاحتكار، وهو حبس السلع ورفع أسعارها عمدًا من خلال تقليل المعروض، بما يلحق الضرر بالناس ويضيق عليهم. فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنِ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ»، أي خارج عن جادة الصواب والعدل، كما قال أيضًا: «مَنِ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللهِ، وَبَرِئَ اللهُ مِنْهُ» (رواه أحمد)، وفي رواية أخرى: «الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ، وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ» (رواه ابن ماجه)، أي أن من يأتي بالسلع وينقلها ليستفيد بها الناس فله أجر وبركة، بينما المحتكر للسلع مستحق للعنة.
كما حُرِّمت المعاملات التي تتسم بالغَرَر، وهي التي يغلب عليها الجهل أو الخداع وتؤدي إلى النزاع، وحُرِّم الغِشّ والحلف الكاذب من أجل ترويج السلع؛ فعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ غَشَّ»، وقال أيضًا: «إيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الْحَلِفِ فِي الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ يُنَفِّقُ ثُمَّ يَمْحَقُ» (رواه مسلم)، أي قد يؤدي الحلف الكاذب إلى البيع مؤقتًا، لكنه يزيل البركة.
ومن المحرمات كذلك التطفيف في الكيل والوزن، وهو أخذ الحقوق كاملة دون إعطاء الآخرين مثلها، وقد توعد الله المطففين بقوله: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ [المطففين: 1-3]، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأحد الذين يزنون للناس: «يا وَزَّانُ، زِنْ وَأَرْجِحْ» (رواه ابن ماجه).
وحُرِّم أيضًا النجش، وهو أن يزيد شخص في ثمن السلعة لا رغبة في شرائها، وإنما خداعًا للمشتري. كما منع الإسلام شراء المسروق أو المغصوب، لأن ذلك يمثل مشاركة في الإثم والعدوان، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنِ اشْتَرَى سَرِقَةً وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا سَرِقَةٌ، فَقَدْ اشْتَرَكَ فِي عَارِهَا وَإِثْمِهَا» (رواه الحاكم والبيهقي).
وشابه ذلك في التحريم: بيع ما يُستخدم في الحرام، كبيع العنب لمن يتخذه خمرًا، أو السلاح لمن يستخدمه في الإفساد، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَعَنَ اللهُ الْخَمْرَ، وَشَارِبَهَا، وَسَاقِيَهَا، وَبَائِعَهَا، وَمُبْتَاعَهَا، وَعَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ» (رواه أبو داود وأحمد)، ونهى أيضًا عن بيع السلاح في زمن الفتنة (رواه الطبراني والبيهقي).
وقد قرنت الشريعة بين هذه المحرمات وبين مجموعة من الآداب التي ينبغي على المسلم التحلي بها في معاملاته، ومنها:
1- التيسير على المعسرين: فالمؤمن مأمور بالرفق بمن أثقلته الديون، وأن يمنحه مهلة للسداد، أو يعفو عنه إن استطاع، قال تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ [البقرة: 280]، وروى البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «كَانَ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَيَأْمُرُ فِتْيَانَهُ: تَجَاوَزُوا عَنِ الْمُعْسِرِ، فَقَالَ اللهُ: نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ، تَجَاوَزُوا عَنْهُ».
2- تحري الحلال: فالمؤمن مأمور بأن يتحرى ما أحله الله في مأكله ومكسبه، وأن يبتعد عن كل ما فيه شبهة، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ [البقرة: 168].
3- العمل النافع: فالإسلام يدعو إلى السعي في الأرض طلبًا للرزق الحلال، قال تعالى: ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ﴾ [الملك: 15].
4- أداء الحقوق لأصحابها: فعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «رَحِمَ اللهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى» (رواه البخاري)، وقال أيضًا: «مَن أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا، أَدَّى اللهُ عَنْهُ، وَمَن أَخَذَهَا يُرِيدُ إِتْلَافَهَا، أَتْلَفَهُ اللهُ» (رواه البخاري).
5- التراضي في المعاملات: فقد اشترط الإسلام في البيع والشراء أن يكونا برضا الطرفين دون إكراه، قال تعالى: ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 29].
6- توثيق المعاملات: لضمان الحقوق، أمر الإسلام بالكتابة والإشهاد عند الدين، فقال الله تعالى: ﴿إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ [البقرة: 282]، وهي أطول آية في القرآن، مما يدل على أهمية التوثيق.
وإذا التزم المسلمون بهذه المبادئ والآداب، بورك لهم في أموالهم، وأغناهم الله من فضله، وعمّ الخير المجتمع كله، وانخفضت نسب النزاع والفساد والمعاملات الباطلة