في زمنٍ تبدّلت فيه الأذواق، وتراجع فيه الذوق، وبقي الصوت وحده هو البرهان، تظهر أنغام… لا لتطالب بلقب “صوت مصر”، بل لتؤكّد أن الصوت – حين يصدق – لا يحتاج شهادة من أحد.
أنغام ليست ابنة الصدفة، ولا ضربة حظّ في سوق الغناء. بل هي سيرة مكتوبة بالعرق والدمع، ومُسطّرة على نُوتة الوطن من الطفولة حتى النضج، من البدايات المكبّلة إلى التحرّر الكامل.
طفلةٌ لم تُنجِب الفن، بل أنجبها الفن. وُلدت وفى حلقها أغنية، وبين يديها نغمة، وحولها مشروع لم يُنجز إلا بها.
قدّمها والدها الموسيقار محمد علي سليمان، كما يُقدّم الملحن لحنه الأثير. اكتشف فيها الكنز، فاحتكره. صوتٌ من ذهب، أحاطه بأسوارٍ من نوتاته، وخطوات رسمها لها بعينيه لا بعينيها. أطاعت الطفلة، وارتدت فساتين الصوت الجاهزة، حتى شبّت عن الطوق، وقالت كلمتها الأولى: “أريد أن أغنّي نفسي”.
كان تمرّدها ضرورة، لا نكرانًا للجميل. أرادت أن تصير مشروعًا لا تابعًا، وأن تغني بلسانها لا بلحن غيرها.
خرجت من عباءة الأب، لا إلى المجهول، بل إلى ذاتها. إلى الصوت الحر، والاختيار الصادق، والقرار الذي لا يُملى عليها.
وفوق طريقها المفروش بالغناء، سقطت دمعة لا تُنسى. فقدت عمها عماد عبد الحليم، الصوت الأقرب لقلبها، والفقد الأقسى في مراهقتها المبكرة. لم تبكِ طويلاً، بل نزفت أغاني. خرجت من الحزن كمن يخرج من معركة: مجروحة، لكنها واقفة، وبصوت أقوى.
ومنذ ذلك الحين، كل تجربة حياتية كانت تُترجم على هيئة أغنية.
أنغام تُحب وتُخذل، تُصدّ وتُعذّب، لكنّها لا تغيب. كل خذلانٍ في حياتها يقابله انتصارٌ في ألبوم. كل انهيار عاطفى،يعاد بناؤه على خشبة المسرح. وهكذا، صارت أنغام بطلة أغانيها، ليس تمثيلًا، بل حياة.
•••
على المسرح، هي حالة. لا تشبه أحدًا.
تغني وكأنها تُنزِف، تهمس كأنها تُصلي، وترتفع نبرتها كأنها تعلن الحرب على الوجع. من يسمعها لا يُدندن معها، بل يعيش داخلها. عيناها تتكلمان، يداها تخبرانك بالبقية، وحركتها على الخشبة تكمل الحكاية.
لم تكن يومًا مطربة تُلهي الجمهور عن الغناء بأخبار الحب والطلاق. بل كانت تعرف جيدًا أن المطرب، حين يصدق في فنه، يغني عن الناس لا عن نفسه. لذا، لم تسمح لمتاعبها الخاصة أن تعيق مسيرتها، بل جعلت منها مادة صوتية تُثري وجدان المستمع.
أنغام تمتلك مشروعًا غنائيًا متكاملًا، لا مجرد رصيد من الأغنيات. مشروعٌ يراهن على الكلمة، ويختار لحنه بعين عاشقة، ويُغنّى بإحساس سيدة تعرف معنى الألم والفرح، وتحترم المستمع، وتراهن على الزمن.
سيدة التفاصيل، تضع بصمتها في كل شيء. لا تترك أغنية تمر دون أن تحوّلها إلى حكاية.
من “بحبك وحشتيني” إلى “حالة خاصة جدًا”، ومن “سيدي وصالك” إلى “عرفها بيا”، كل أغنية تحمل خيطًا من أنغام… خيطًا يربط القلب بالصوت، والوجدان بالكلمة، والدمع بالفرح.
وحين نسأل: هل تستحق أنغام أن تكون “صوت مصر”؟
فالسؤال فى ذاته يحمل الإجابة. لأن مصر لا تختار من يُغنيها بكثرة الألبومات، بل بمن يُشبِهها.
أنغام تشبه مصر كما نحب أن نراها: رقيقة وصلبة، ناعمة وعميقة، مؤلمة ومفرحة، تعرف الطريق رغم العتمة، وتُغني الحياة حتى لو مرّت بالموت.
إنه الصوت الذي لا يخطئه القلب.
وما أكثر الضجيج… وما أقلّ الأصوات.