عاجل

لم تعد الفتوى اليوم حبيسة المجالس العلمية ولا مقتصرة على المؤسسات التقليدية، بل باتت في مواجهة عصر جديد يعيد تشكيل طبيعتها وحدودها. لقد حملت تقنيات الذكاء الاصطناعي معها إمكانيات هائلة لتحليل البيانات والتفاعل مع الجمهور، وبرزت معها فكرة غير مسبوقة: الفتوى التنبؤية. يقوم هذا النموذج على استخدام الخوارزميات لاستشراف القضايا الفقهية التي يُحتمل أن تُطرح مستقبلاً، اعتمادًا على مؤشرات رقمية واتجاهات مجتمعية تتشكل لحظة بلحظة.
هذا التحول التقني يفتح الباب أمام نقاش شرعي معقد. فالفتوى، كما هو معلوم، فعلٌ شرعي تفاعلي يُبنى على واقع معين وسؤال جزئي محدد، ويتطلب تحقق مناط الحكم، وفهمًا دقيقًا للبيئة والظروف والسائل. في حين أن الفتوى التنبؤية تنطلق من منطق استباقي، يُفترض فيه أن يكون النظام قادرًا على "توقع" النازلة قبل وقوعها، بناء على تراكم البيانات. هنا يطرح السؤال الجوهري: هل يجوز شرعًا تقديم فتوى في واقعة لم تقع بعد؟ وهل تدخل هذه الممارسة ضمن مفهوم الاجتهاد الوقائي المشروع في الفقه الإسلامي؟
في واقع الحال، لا يخلو الفقه الإسلامي من اجتهادات سباقة، وسبق للعلماء أن درسوا النوازل المتوقعة، خاصة في مجالات المعاملات والمستجدات التقنية. لكن هذا النوع من الاجتهاد كان يتم ضمن بيئة علمية بشرية، تُراعي المقاصد والعلل والخصوصيات الاجتماعية والثقافية. أما في حالة الذكاء الاصطناعي، فإن الفتوى التنبؤية تُستخلص من تحليل رقمي جاف، لا يملك وعيًا بالمآلات ولا فهمًا للمقاصد ولا إحساسًا بالبعد القيمي الذي هو جوهر الإفتاء الشرعي.
المسألة تصبح أكثر تعقيدًا حين ننتقل إلى الجانب الأخلاقي. إذ أن الفتوى التنبؤية التي تصدر عن نظام ذكي تطرح إشكالية المسؤولية: من يتحمل تبعاتها إذا كانت مضللة أو سبّبت ضررًا؟ هل النظام نفسه؟ أم المؤسسة المشغّلة؟ أم المبرمجون؟ إضافة إلى ذلك، يتطلب عمل هذه الأنظمة تخزين بيانات شخصية عن المستفتين وسلوكهم، مما يفتح الباب أمام انتهاكات خطيرة للخصوصية الدينية في حال غياب الضوابط أو الرقابة المؤسسية.
ثم إن نظام الذكاء الاصطناعي، مهما بلغ من التطور، يبقى عاجزًا عن إدراك البعد المقاصدي للفتوى، وهو ما يجعلها أكثر من مجرد استنتاج فقهي. الفتوى فعلٌ تواصلي، تفاعلي، يتطلب فقيهًا يحمل همّ السائل، ويوازن بين النص والمصلحة، بين القطعيات والمحتملات. حين تتحول الفتوى إلى منتج تنبؤي رقمي، فإنها تفقد هذه الروح، وتتحول إلى محتوى نمطي قد يضر أكثر مما ينفع.
مع ذلك، لا يعني هذا رفض استخدام الذكاء الاصطناعي في المجال الإفتائي من حيث المبدأ. بل ينبغي توجيهه ليكون أداة مساعدة في جمع المعطيات، وتحليل الأنماط، وتيسير الوصول إلى الفتاوى الموثوقة، مع إبقاء القرار الإفتائي بيد الفقيه المؤهل. يمكن أيضًا الاستفادة من هذه التقنية في تحديد أولويات القضايا الملحة، أو في تحسين تنظيم قواعد البيانات الفقهية، أو في دعم المجامع الفقهية في رصد الاتجاهات الاجتماعية الجديدة. غير أن تحويل النظام الذكي إلى مفتي مستقل، أو تقديم الفتوى التنبؤية كبديل عن الفتوى التفاعلية، يمثل تجاوزًا لحدود الشرع والعقل معًا.
يبقى التحدي الأساسي هو الحفاظ على مركزية الإنسان في العملية الإفتائية. فالذكاء الاصطناعي قادر على المعالجة، لكنه لا يملك نية، ولا ضميرًا، ولا مسؤولية أمام الله والمجتمع. وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد أحاطت الفتوى بجملة من الشروط الدقيقة، فإن دخول الآلة في هذا المجال يجب أن يكون مضبوطًا ومؤطرًا، لا أن يتحول إلى سلوك تلقائي غير خاضع للمراجعة أو التأمل.
إن الفتوى التنبؤية تضعنا أمام سؤال جديد: ما هو مستقبل الإفتاء في عصر التقنية؟ والإجابة ليست في العودة إلى الوراء، ولا في الاندفاع غير المحسوب نحو الرقمنة، بل في تطوير نموذج تفاعلي يدمج بين المعرفة الشرعية العميقة، والقدرة التقنية، والبصيرة المقاصدية. وحده هذا التكامل يمكن أن يصنع تحولًا حقيقيًا في الإفتاء، دون أن يفقده روحه أو مسؤوليته أو إنسانيته.

تم نسخ الرابط