«هراء عصري» .. سوء استخدام مفكري ما بعد الحداثة للعلم

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب هراء عصري: سوء استخدام مفكري ما بعد الحداثة للعلم Fashionable Nonsense: Postmodern Intellectuals' Abuse of Science، ضمن سلسلة ترجمان، وهو من تأليف آلان سوكال وجان بريكمون وترجمة نجيب الحصادي، ويقع في 385 صفحة، شاملًا تقديمًا وضعه المؤلفان خصيصا للترجمة العربية، ومقدمة الترجمة العربية لأستاذ ورئيس برنامج الفلسفة العربية في معهد الدوحة للدراسات العليا ورئيس تحرير دورية تبيُّن رجا بهلول، وتمهيدَ الطبعة الإنكليزية، وخاتمة، إضافة إلى ملاحق وثبت مصطلحات ومراجع وفهرس عام.
يكشف الكتاب ظاهرة مقلقة، تتجلّى في إساءة استخدام المصطلحات العلمية من بعض مفكري ما بعد الحداثة، الذين يستعيرون مفاهيم رياضية وفيزيائية من غير بيئتها المفهومية، ليوظّفوها في سياقات لغوية وأدبية وفلسفية، غالبًا على نحو لا يُنتج معرفة، بل غموضًا ملبّدًا يخفي خواء المعنى.
أقنعة العلم في خطاب ما بعد الحداثة
يبيّن كتاب هراء عصري: سوء استخدام مفكري ما بعد الحداثة للعلم أنّ المؤلّفَين، آلان سوكال وجان بريكمون، لا يُدينان استخدام المجاز العلمي في حدّ ذاته، بل إسقاطه من دون تأنٍّ أو تدقيق؛ وهو ما يجعل اللغة العلمية أداة تزيينية لإضفاء وهْم العمق والصرامة على خطابات لاعقلانية. ينطلق المؤلّفان من الخدعة الشهيرة "خدعة سوكال"، التي تتلخّص في إرسال سوكال مقالة علمية زائفة مليئة بالمصطلحات المركبة والمفاهيم الملتبسة إلى مجلة فكرية بارزة، فقبلت نشرها؛ فكشف هذا الأمر غياب المعايير النقدية الجادة لدى تيارات ما بعد الحداثة. وهو ما مهّد لصدور الكتاب أولًا بالفرنسية ثم بالإنجليزية بعنوان Fashionable Nonsense، ليصبح وثيقة نقدية واسعة الأثر.
لم يصف المؤلّفان المشكلة وحسب، بل قدّما نماذج دقيقة من نصوص لرموز بارزين أيضًا، مثل جاك لاكان وجوليا كريستيفا، يظهر فيها الاستخدام المتعسّف لمفاهيم رياضية كـ "شريط موبيوس" أو "فئة كل الفئات" في إطار تحليلات تتعلق بالذات أو الدولة أو اللاوعي، من دون أي رابط معرفي أو تجريبي واضح. ويبيّن المؤلّفان كيف يتوارى الغموض خلف سلطة اللغة، فتتحوّل المصطلحات العلمية إلى أقنعة بلاغية، ويغيب التفريق بين الصعوبة المفهومية والغموض المفتعل. ويؤكّدان أن الجملة العلمية، مهما كانت معقّدة، يمكن شرحها بلغة بسيطة نسبيًّا، خلافًا للخطابات المفكّكة التي تعتمد على الالتباس بصفته قيمةً، لا عرضًا جانبيًّا. ويلفتان إلى نوع من "الاستعراض الطوبولوجي" في نصوص لاكان، حيث تُستعار أشكال هندسية من علوم رياضية دقيقة لتفسير حالات نفسية، وكأن الأنا العصابية يمكن أن تُفهم من خلال خرائط "الطارة" أو "قنينة كلاين"، بلا تجربة ولا اختبار، بل بافتتانٍ بلاغي يستبدل الإبهار اللغوي بالإضاءة العلمية.
النسبانية المعرفية وسؤال الحقيقة
يتجاوز المؤلّفان مستوى الخطاب إلى مساءلة الفرضيات الإبستيمولوجية التي يقوم عليها فكر ما بعد الحداثة، وتحديدًا أطروحة "النسبانية المعرفية"، التي تفترض أن العلم ليس إلا خطابًا بين خطابات، ولا يتمتع بأي امتياز في تمثيل الحقيقة. وهما يريان أن هذا الموقف ينقلب على نفسه؛ إذ يستخدم أدوات العلم ذاته لنقضها، ويقع في مفارقة منطقية تُجهض مشروعيته. فحتى دعاة النسبانية، كديفيد بلور، يستخدمون مفاهيم السببية والتجريب والملاحظة في شرح أطروحاتهم؛ ما يدل على أن العلم لا يُستبدل بسهولة بخطاب سردي أو ذاتي، بل يبقى مشدودًا إلى واقع مستقل يمكن اختباره. ويرفضان كذلك تبرير النسبانية من خلال أعمال توماس صامويل كون أو ويلارد كواين، فهذه الأطروحات، وإن شكّلت نقدًا لبنية العلم، لم تقصد تفكيكه بل تعميق فهمه، ولا تزال تقرّ بوجود "تجارب عنيدة" ترفض الانصياع للأطر النظرية. ويذكّران بأن العقلانية ليست أداة قمع أو هيمنة في حدّ ذاتها، بل هي إمكان تحرري، وأن تفريغ مفاهيم مثل الحقيقة والعلم من دلالاتها، بذريعة الخصوصية الثقافية أو تفكيك السلطة، لا يخدم إلا التيه الفكري. ويحذّران من تأثير هذا التفريغ في مجتمعات لم تخض بعد تجربة الحداثة بعمق، حيث يتحوّل النقد إلى هروب، والتشكيك إلى عجز، واللغة إلى لعبة تعجز عن ملامسة الواقع.
اليسار الجديد وتيه العقل النقدي
يتحدّث مؤلِّفا كتاب هراء عصري عن مفارقة مركزية تتعلق بتحولات اليسار، متسائلَين: كيف انتقل جزء منه من الدفاع عن العقل والعلم إلى افتتان بخطابات لاعقلانية، نسبية، وتفكيكية؟ ويميّزان هنا العلاقة المنطقية بين الأفكار من العلاقة الاجتماعية أو السياسية التي قد تربط بينها، رافضَين الخلط الذي يفترض أن الدفاع عن الأقليات أو الحركات النسوية أو المناهضة للعنصرية يتطلّب بالضرورة الانقلاب على العلم والعقلانية. ويرصدان كيف أن جزءًا من الحركات الاجتماعية الجديدة، بعد أن أهملها اليسار التقليدي أو اختزلها في الصراع الطبقي، وجد فيما بعد الحداثة أداة تعبير. إلا أن ما يُنتَج هنا ليس خطابًا نقديًّا عقلانيًّا، بل تبريرات لعداء شامل للعقلانية. ويُربَط ذلك بسياق انهيار المنظومات الشيوعية، وتراجع الحركات التحررية؛ ما ولّد يأسًا دفع مثقفين إلى الانسحاب إلى "رطانة باريسية" ونصوص مفككة، تتناول نقاشات غامضة عن الخطاب والنموذج والمجاز بدلًا من تحليل السياسات الواقعية.
الهوية، والسلطة، والمعرفة المفككة
يُفكّك المؤلّفان خلط "العلم" بصفته مؤسسة، بمنهج، وتقنية، ونظرية، ويوضّحان أن كثيرًا من انتقادات ما بعد الحداثة يستهدف أحد هذه المعاني ثم يعمَّم على الكل، بل يتعدّى ذلك أحيانًا إلى الهجوم على العقلانية ذاتها؛ وهذا يضع هذا الاتجاه في صف واحد مع الخرافات والأصوليات. في هذا السياق، لا يخدم نقد العلم الفئات المستضعفة، بل يُجرّدها من أدوات فهم الواقع وتغييره، ليمنح الأقوياء احتكار أدوات التحليل. ويناقش الكتاب أيضًا ردود الفعل المتفاوتة على خدعة سوكال، فيُظهر أن ثمّة معارضين لما بعد الحداثة يخلطون بين التيارات النقدية أيضًا، فيردّون على الإفراط العدمي بإفراط علموي. لذا، يطرح المؤلّفان موقفًا عقلانيًّا متّزنًا، يحترم التعدد الثقافي، لكنه يرفض خلطه بإنكار الحقيقة أو تهشيم المعرفة باسم الهوية أو النسبية.
ما بعد ما بعد الحداثة: نحو مشروع عقلاني جديد
تتجلّى ذروة العمل في القسم التحليلي الختامي في كتاب هراء عصري، حيث تُفكّك الدوافع النفسية والسياسية والفكرية التي جعلت من "ما بعد الحداثة" ظاهرة فكرية مهيمنة. ويُظهر الكتاب أن هذا التيار لا يُهدّد العلوم الطبيعية بقدر ما يزعزع أسس الثقافة العامة والعلوم الإنسانية التي باتت تنزلق نحو الطلسمة، كما يُقوّض أدوات اليسار السياسي في مساءلة الواقع وتغييره. فلا يعود الخطاب النقدي قادرًا على تمييز الخرافة من الحقيقة؛ إذ يحلّ التأويل الغامض والتفكيك العقيم محلّ المساءلة. وتُظهر هيمنة ما بعد الحداثة نتائج كارثية على الفكر اليساري: من انعزال النخب الأكاديمية عن القواعد الشعبية، إلى تشويه صورة اليسار، واستحالة التواصل مع غير المقتنعين أصلًا؛ لأن كل خطاب يُردّ إلى رواية ذاتية. وفي لحظة تأمّل أخيرة في الكتاب، نجده يطرح أفقًا جديدًا: نقد للعقل بلا دوغمائية، علم بلا علموية، تقدمية بلا نخبويّة. إن ما بعد الحداثة التي بدأت تمرّدًا على التخشّب تحوّلت إلى أرثوذكسية جديدة، تركيبة من التخمينات والمبالغات، لا تصنع فهمًا ولا تبني أملًا. وما يدعو إليه هذا الكتاب ليس العودة إلى الصرامة المغلقة، بل إلى عقل نقدي مفتوح، قادر على التمييز، وصوغ معرفة تحرّر لا تُراوغ، وتبني لا تُفسّر الفشل بجمال اللغة.