الذكاء الاصطناعي .. ذلك المصطلح الذي أصبح حديث الجميع، واقتحم كافة التخصصات ليفرض نفسه بقوة .. فلم يعد الذكاء الاصطناعي رفاهية تقنية بل واقعًا يصوغ يوميات الناس، وأصبحت الحاجة ملحة لإعادة التفكير في منظومة الإفتاء في ظل هذه التكنولوجية الجديدة. ذلك أن الإفتاء ليس نشاطًا معرفيًا جامدًا، بل عملية حيوية تستجيب لحركية الواقع وتعقيداته، وتستلهم من الشريعة مرونتها ومقاصدها. وهنا يثور سؤال العصر كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يسهم في تطوير الإفتاء دون أن يمسّ جوهره الإنساني أو يختزل أبعاده الشرعية؟
والإفتاء، بطبيعته، عمل مركب يتطلب وعيًا عميقًا بالنص الشرعي من جهة، وإدراكًا دقيقًا بالواقع الإنساني من جهة أخرى. فالسائل لا يبحث فقط عن حكم، بل عن بصيرة تُطمئن قلبه، وفتوى تتناغم مع ظروفه ومجتمعه ومآلات فعله. من هنا، فإن الذكاء الاصطناعي -على تقدّمه المذهل- يظل عاجزًا عن إدراك النيات، وتقدير السياقات، والتفاعل الوجداني مع المستفتي، وهي عناصر جوهرية في عملية الإفتاء لا يمكن أن تُشفّر أو تُختزل في خوارزمية.
ومع ذلك، فإن أدوات الذكاء الاصطناعي يمكن أن تكون ذراعًا مهمة تعين المفتي ولا تستبدل به. فبإمكان هذه الأدوات أن تجمع الفتاوى وتفهرسها، وتساعد في تتبع النوازل المتكررة، وتحلل أنماط الأسئلة الواردة من فئات أو مجتمعات معينة، مما يفتح أمام المؤسسات الإفتائية آفاقًا غير مسبوقة في فهم الواقع والتفاعل معه بطريقة أكثر دقة ومرونة. المهم هو أن تظل هذه الأدوات تحت إشراف الفقيه الواعي الرشيد، وفي إطار من الضوابط العلمية والشرعية.
وتحديات هذا العصر تفرض علينا مفتيًا مختلفًا مفتيًا يتقن فقه الواقع كما يتقن فقه النص، ويجيد لغة العالم كما يحفظ لغة التراث. مفتيًا يدرك أن الذكاء الاصطناعي ليس تهديدًا للفتوى، بل فرصة لإعادة تنظيمها وتطوير أدائها المؤسسي، بشرط أن يبقى هو –لا الآلة– صاحب القرار، والحَكَم في توجيه الفتوى بما يحقق المصلحة ويراعي المقاصد.
من هنا تأتي أهمية المؤتمر العالمي العاشر للأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، الذي تنظمه دار الإفتاء المصرية تحت عنوان "صناعة المفتي الرشيد في عصر الذكاء الاصطناعي" يومي 12-13 أغسطس المقبل في القاهرة بحضور عشرات العلماء والمفتين والمتخصصين من مختلف دول العالم. هذا العنوان لا يكتفي بالإشارة إلى التحديات، بل يُعلن بوضوح عن مشروع متكامل لصياغة نموذج جديد للمفتي؛ نموذج يمزج بين الأصالة والاجتهاد، بين رسوخ القدم في العلم، والقدرة على توظيف أدوات العصر لخدمة الإنسان.
إن ما نحتاجه اليوم ليس فقط مفتيًا يفتي، بل مفتيًا يواكب، يبتكر، ويملك من الوعي ما يجعله يميز بين ما تُقدمه التقنية من أدوات نافعة، وما قد تجرّه من اختلالات معرفية أو فقهية إن تُركت دون ضوابط.
المفتي الرشيد في هذا السياق هو من يستخدم الذكاء الاصطناعي لا ليُفكر أو يجتهد بدلاً عنه، بل ليُسرّع الوصول إلى ما قرره المفتي من اجتهاد، وليوسّع نطاق أثر فتواه في العالم الرقمي دون أن تتنازل عن روحها المقاصدية وغايتها التربوية.
إننا نعيش مرحلة تأسيسية لحقبة جديدة من الإفتاء، تتطلب وعيًا مضاعفًا، ورؤية شاملة، وتدريبًا منهجيًا دقيقًا للمفتين، حتى لا يُصبح الذكاء الاصطناعي سيدًا على الفتوى، بل خادمًا للحق، وجسرًا يصل بالفقه إلى الناس بلغة عصرهم وأدواته، دون أن يفقد نوره أو يختلّ ميزانه.