عاجل

في عالم يزداد ازدحاما وصخبا كل يوم يبحث الانسان عن لحظة هدوء عن صوت يصغي اليه دون مقاطعة وعن عقل يفهم ما يريد دون ان يحكم عليه. ومع التقدم الهائل في مجال الذكاء الاصطناعي ظهر ما يشبه المعجزة في نظر البعض شات جي بي تي الذي لا ينام ولا يغيب حاضر دائما ومستعد للرد والتفاعل والمساعدة.

حين اطلقت شركة اوبن ايه آي هذا التطبيق في نوفمبر 2022 لم يكن احد يتوقع انه سيتجاوز دوره كأداة للمساعدة التقنية او محرك ذكي للاجابة. لكنه سرعان ما تحول عند ملايين المستخدمين الى اكثر من ذلك. اصبح رفيقا دائما وموجها مهنيا واحيانا صديقا شخصيا. يطرحون عليه الاسئلة اليومية ويطلبون منه المشورة بل ويتبادلون معه الاحاديث التي لا تقال احيانا حتى للاصدقاء المقربين.

قد يبدو هذا في ظاهره انجازا تقنيا مبهرا لكن خلف هذا الانجاز تكمن معضلة اجتماعية ونفسية تستحق التأمل. فهل نحن على اعتاب عصر يستبدل فيه الانسان صداقاته الحقيقية بعلاقات افتراضية مع برمجيات لا تملك قلبا ولا روحا وهل يمكن ان تكون العلاقة مع روبوت لغوي مريحة لدرجة تدفع البعض الى الانسحاب من الحياة الواقعية والركون الى شاشة صامتة

شات جي بي تي ليس كائنا حيا لكنه يقدم وهم العلاقة الانسانية المتكاملة. يرد على الاسئلة باجابات دقيقة يصوغ الافكار بذكاء وينسق الكلمات بلغة انيقة لكنه يفتقر الى المشاعر ولا يعرف معنى القلق او الحزن او الفرح. ورغم ذلك فقد وجد فيه بعض المستخدمين ونا يعوضهم عن فراغ حقيقي في علاقاتهم او حياتهم.

المشكلة لا تكمن في التكنولوجيا ذاتها بل في الطريقة التي نستخدمها بها. فحين يتحول التطبيق من مجرد وسيلة لانجاز المهام الى بديل عن التفاعل الانساني يصبح الذكاء الاصطناعي تهديدا للعلاقات الاجتماعية لا اداة لخدمتها. وما يزيد من خطورة الامر هو انه يحدث بصمت دون صراع فالمستخدم لا يشعر انه يستبدل الواقع بالوهم بل يعتقد انه يهرب الى الراحة المؤقتة دون ان يدرك ان ثمن هذه الراحة قد يكون العزلة النفسية وفقدان المهارات الاجتماعية.

البعض يتحدث الى شات جي بي تي اكثر مما يتحدث الى اسرته. والبعض الآخر يلجأ اليه في لحظات التوتر بدلا من مشاركة الحديث مع صديق حقيقي. ومع الوقت تتآكل الروابط الانسانية ويعتاد العقل على التفاعل مع كيان لا يعارض لا يغضب ولا يختلف في الرأي. وهنا تبدأ المسافة تتسع بين الفرد ومحيطه ويتحول الاعتماد على الذكاء الاصطناعي من اداة مساعدة الى علاقة احادية الجانب تنتج شعورا زائفا بالامان.

وقد حذر كثير من الخبراء في علم النفس والاجتماع من هذا التوجه. فالعلاقات الرقمية مهما بدت ذكية وسلسة لا تعوض عن التواصل البشري القائم على التفاعل العاطفي والمشاركة الحقيقية. وحتى في العلاقات الاسرية ظهرت مؤشرات مقلقة على ان بعض الازواج يلجأون الى التطبيقات الذكية للتنفيس عن مشكلاتهم او لاشباع احتياجاتهم النفسية مما يخلق فجوات في العلاقة الحقيقية مع الشريك ويفتح الباب امام ازمة تواصل خطيرة داخل الاسرة.

ليس المطلوب ان نتوقف عن استخدام شات جي بي تي او غيره من ادوات الذكاء الاصطناعي بل ان نعيد تعريف دور هذه الادوات في حياتنا. هي وسائل مساعدة وليست بدائل عن الانسان. هي ادوات للتفكير لا كيانات للحوار العاطفي. وحين ننسى هذا الفارق نكون قد اخترنا بارادتنا ان نستبدل الحقيقة بالوهم وان نستبدل الاصدقاء بالشاشات.
في نهاية المطاف ما يزال الانسان يحتاج الى انسان. الروابط الحقيقية لا تصنع بالرموز والبرمجة بل بالمواقف والمشاعر. والونس لا يأتي من روبوت يكتب جيدا بل من شخص يعرفك كما انت يصدق فرحك ويشاركك حزنك ويصمت معك حين لا تجد ما تقوله.

الذكاء الاصطناعي سيستمر ويتطور وسيفتح آفاقا واسعة في مجالات التعليم والاعلام والابداع. لكن لا يجب ان يسمح له باختراق مناطق الانسان الخاصة حيث يكون الحديث اكثر من كلمات والتواصل اعمق من نص مكتوب. فلنحافظ على ما يجعلنا بشرا ولنحسن استخدام ما يجعل حياتنا اذكى دون ان تفقد معناها الحقيقي.

تم نسخ الرابط