عاجل

علي خامنئي .. عندما يطلب الولى الفقيه ترديد أغنية "وطنية"

علي خامنئي
علي خامنئي

أنهى المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية علي خامنئي الجدل حول اختفاءه بظهوره في مراسم عزاء ليلة عاشوراء الإمام الحسين، في 5 يوليو 2025، والتي أقيمت بحسينية الإمام الخميني في العاصمة طهران، حيث كان آخر ظهور له قبل يومين من اندلاع الحرب مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية في 13 يونيو الفائت.

وفي الواقع، فإن ذلك لم يكن الحدث الوحيد الذي حظى باهتمام خاص داخل وخارج إيران، وإنما كان لافتاً أن مراسم عزاء ليلة عاشوراء شهدت ظواهر لم تكن معهودة بشكل واسع خلال الفترة الماضية، وربما على مدار الأعوام الستة والأربعين من عمر الثورة الإسلامية الإيرانية.

ووفقًا لدراسة أعدها مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، أهم هذه الظواهر هو حرص خامنئي على مطالبة المُنشِد محمود كريمي بترديد أغنية "اى ايران" أو "يا إيران"، وهى أغنية "وطنية" من تأليف تورج نگهبان، وألحان محمد سرير، وغناء محمد نوري. وقد كان ذلك خطوة متعمدة ولافتة من جانب المرشد تعكس المزاج العام الذي تشهده إيران حالياً، كأحد المعطيات الجديدة التي فرضتها الحرب التي دامت إثنى عشر يوماً بين إيران من جهة وكل من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى.

الملفت في هذا السياق، هو أن ترديد هذه الأغنية في السابق كان يتعرض لقيود من جانب النظام، باعتبار أنها تُعلي من مفردات مثل "الوطنية" و"المؤسسية" على حساب "الأيديولوجيا" و"الأممية". ورغم أن النظام الإيراني يمزج بين هذه المفردات في مجملها، حتى في الاسم الرسمي للدولة، إلا أنه يعطي الأولوية للجانب الثيوقراطي على نحو يبدو جلياً في مسمى الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

هنا، فإن النظام الإيراني يحاول خلال مناسبة دينية التماهي مع تصاعد نبرة القومية الإيرانية داخل الدولة بعد تعرضها لهجوم عسكري خارجي، وهو ما توازى مع تعمد إظهار العلم الرسمي للدولة بشكل ملفت أيضاً خلال هذه المراسم الدينية، دون الأعلام الأخرى التي تحمل طابعاً أيديولوجياً، وعدم دعوة قيادات وكوادر من "المحور الإقليمي" لحضور المناسبة كما جرت العادة في المناسبات الدينية السابقة.

وربما يمكن تفسير ذلك في ضوء اعتبارات عديدة، منها أن هذه النبرة تعزز من تماسك الدولة وقدرتها على احتواء ما جرى من تداعيات بعد الخسائر البشرية والاقتصادية والنووية التي تعرضت لها على مدار فترة الحرب. وبمعنى أدق، فإن دعم هذه النبرة القومية يضيف إلى ما سبق أن حققته إيران خلال فترة الحرب، عندما نجحت في استيعاب الضربات العسكرية الأولى التي وجهتها إسرائيل واغتالت من خلالها عدداً من القادة العسكريين الرئيسيين في الجيش والحرس الثوري، ووجهت ضربات قوية ومؤثرة إلى داخل إسرائيل نفسها لم تعهدها من قبل، حيث بدت مظاهر الدمار الواسع في مدن مثل تل أبيب وحيفا وبئر سبع غير معهودة للإسرائيليين الذين كانوا يشاهدونها فقط على شاشات الفضائيات في غزة وبيروت ودمشق.

وقد بدأت تقارير عديدة تكشف حجم الدمار الواسع الذي لحق بإسرائيل – والذي تتعمد السلطات داخل الأخيرة التعتيم عليه - بسبب تلك الضربات، على غرار تقرير صحيفة "تليجراف"، في 5 يوليو الجاري، الذي كشف أن الهجمات الصاروخية الإيرانية أصابت خمس منشآت عسكرية إسرائيلية ما بين قاعدة جوية رئيسية، وقاعدة لجمع المعلومات الاستخباراتية، ومنشأة لوجستية. كما كشفت الزيارة التي قام بها أعضاء لجنة العلوم والتكنولوجيا في الكنيست إلى معهد وايزمان للعلوم، في اليوم التالي، حجم الأضرار الضخمة التي تعرض لها جراء الهجمات الصاروخية الإيرانية.

من هنا، فإن القيادة العليا تحاول البناء على ذلك عبر تأكيد أن "الدولة" استطاعت بقدراتها الذاتية "الوطنية" رفع كلفة العمليات العسكرية التي قامت بها إسرائيل ضدها. وربما تحاول في هذا الصدد أيضاً الترويج إلى أن أياً من المليشيات التي كانت ضمن "المحور الإقليمي" الذي تقوده في السابق لم تنخرط في تلك الحرب، وذلك لخدمة "الخطاب الدولتي" الذي تتعمد حالياً تضخيمه والبناء عليه بدلاً من "الخطاب الأيديولوجي" أو "الثوري".

محور توافق

اللافت هنا أيضاً أن هذا "الخطاب الدولتي" كان محور توافق مشترك خلال فترة الحرب بين النظام والمعارضة السياسية الداخلية، التي تختلف عن معارضة الخارج في كونها ما زالت تعمل من داخل عباءة النظام حتى مع التحفظات التي تبديها على سياساته. فقد أمعن الإصلاحيون – الذين يتعرض بعض رموزهم مثل الرئيس الأسبق محمد خاتمي لقيود سياسية شديدة – في إثبات ولاءهم للنظام، عبر تأكيد وقوفهم خلف القيادة ممثلة في المرشد خامنئي في التصدي للعدوان الخارجي ورفض التهديدات الأجنبية.

كما لم تسجل حالات تمرد أو احتجاجات واسعة النطاق داخل المناطق التي تقطنها القوميات الإيرانية خلال فترة الحرب التي انشغلت فيها السلطات بمواجهة الضربات العسكرية الإسرائيلية والأمريكية، وهو موقف أيضاً يحسب لها ويضع حدوداً للتكهنات التي كانت تروج في السابق حول تطلعها للانفصال عن إيران كدولة.

من هنا، ربما يكون إمعان النظام في الاهتمام بمفردات "الخطاب الدولتي" إشارة منه إلى أنه يلتقي في منتصف الطريق مع هؤلاء، حيث يتفقون على أن الأهم هو حماية إيران كدولة ينصهر داخلها كافة الإيرانيين.

وربما لا يكون من قبيل المجازفة القول بأن النظام في إيران يتعمد المضى قدماً في هذا النهج، أى تغليب "الخطاب الدولتي" على "الخطاب الأيديولوجي" كنوع مما يمكن تسميته بـ"الانحناء للعاصفة"، خاصة أن الخطاب الثاني أصبح محط ضغوط وانتقادات قوية داخل إيران حتى قبل الحرب بفترة طويلة.

إذ أن ثمة اتجاهاً داخل إيران يرى أن المشكلات الحقيقية التي تواجهها الأخيرة تكمن في إمعانها في استنزاف موارد "الوطن" في الإنفاق على "مغامرات" خارجية على حساب معالجة الأوضاع المعيشية داخل إيران نفسها، على غرار تفاقم حدة الأزمة الاقتصادية، واتساع نطاق الفوارق الاجتماعية والطبقية، وغيرها.

لكن هنا، لابد من الإشارة إلى أن تغليب "الخطاب الدولتي" لا يعني إنهاء الاعتماد على "الخطاب الثوري"، فالأخير لا يستطيع النظام الإيراني الاستعاضة عنه بسهولة. بل يمكن القول إنه يعتمد في الأساس عليه. وبمعنى أدق، فإن نظام الولى الفقيه لا يستطيع التعايش من دون مفردات مثل "نصرة المستضعفين" و"إقامة الحكومة العالمية للإسلام"، وهى المفردات نفسها التي استخدمها في دعم المحور الذي قام بتأسيسه في المنطقة، وكان له دور في تشكيل وضبط اتجاهات التفاعلات التي جرت في المنطقة على مدى عقود عديدة.

كما لا يعني كل ما سبق في مجمله أن "الخطاب الدولتي" كان غائباً عن إيران خلال العقود السابقة، بل إنه كان حاضراً لكن على استحياء، وهو ما يبدو جلياً على سبيل المثال في استمرار الاهتمام بالرموز والمناسبات الفارسية.

وربما فطن المُنشِد محمود كريمي إلى هذه الحقيقة عندما أضفى طابعاً عاشورائياً عليها في النهاية، على نحو مس النهج الرسمي الإيراني في الصميم الذي يقوم على المزج بين المناسبة العاشورائية والهوية الوطنية للدولة الإيرانية.

هنا، سوف تبقى الأحداث التي سوف تشهدها إيران خلال المرحلة القادمة هى المتغير الأساسي الذي سيحكم في النهاية على ما إذا كان هذا النهج الذي تبناه المرشد خامنئي في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب هو خطوة تكتيكية للتماهي مع تصاعد النبرة القومية داخل إيران والذي تعزز خلال الأيام الإثنى عشر التي استغرقتها الحرب، أم أنها خطوة استراتيجية تعبر عن تغيرات في توجهات المرشد خامنئي تعكس استيعابه لما حدث للمحور الإقليمي الذي كانت تقوده إيران، ولما أنتجته الحرب من معطيات جديدة على الأرض.

في النهاية، ورغم أن الحديث كله يدور حول "أغنية وطنية" و"أعلام دولة"، فإنها تبدو إشارات موحية لما قد يجول في خاطر القيادة الإيرانية حالياً.

تم نسخ الرابط