عاجل

في مفارقة تليق بكتابة التاريخ بسخرية مُرة، تتهيأ المنطقة لمشهد لم يكن في الحسبان: لقاء علني، مرتقب ومرتب بعناية أميركية، بين رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، وبين الرجل الذي لطالما تصدر قوائم الإرهاب الدولي تحت اسمه الحركي “أحمد الجولاني”، زعيم “هيئة تحرير الشام” في سوريا، قبل أن يُطلّ علينا اليوم بهوية جديدة تحت اسم “أحمد الشرع”، رئيس الدولة الانتقالية في دمشق، في مشهد يصفه بعض العارفين بأنه أقرب إلى تتويج سوري – إسرائيلي لـ”صفقة تطبيع أكبر من المتوقع”، وتصفية متأخرة لحسابات الجغرافيا والتاريخ معًا.
•••

لقد ارتبط اسم أحمد الجولاني بالجولان كمكان وراية: انتماء عقائدي ونضالي، عنوانه العريض “التحرير”، وبيانه الأول مواجهة إسرائيل بوصفها العدو المركزي. واليوم، يصبح الرجل ذاته على أعتاب تسوية كبرى مع العدو نفسه، يُشاع أنها تتضمن تنازلًا سوريًا رسميًا عن استعادة الجولان، مقابل حزمة من “الضمانات الأميركية”، أبرزها تثبيت أحمد الشرع رئيسًا لسوريا في صيغة حكم انتقالية طويلة الأمد، ودمج سوريا تدريجيًا في اتفاقيات “أبراهام”، جنبًا إلى جنب مع شركاء التطبيع.

إذا ما صدقت الأنباء المتواترة حول ما يُدار خلف الأبواب المغلقة في عمّان وواشنطن، فإننا أمام تحول هو الأعمق منذ يونيو 1967، ليس في موقف سوريا من الجولان فقط، بل في مفهوم الصراع العربي – الإسرائيلي ذاته، بعدما أصبح مَن رفع راية “تحرير الجولان” هو من يضع توقيعه على صكّ تنازل أبدي عنه.

ماذا تريد إسرائيل؟

من وجهة نظر إسرائيلية، فإن السلام مع سوريا – تحديدًا تحت قيادة سنّية معارضة للأسد وإيران – هو ضربة سياسية مزدوجة: أولًا، يحقق نصرًا دبلوماسيًا لحكومة نتنياهو يمكن توظيفه داخليًا في لحظة مأزومة سياسيًا، وثانيًا، يعزل إيران استراتيجيًا عن ساحتها الأقرب إلى الجبهة الإسرائيلية، ويمنح تل أبيب فرصة نادرة لإعادة ترسيم أمنها الإقليمي، باتفاق دائم مع دمشق الجديدة.

في المقابل، يبدو أن إدارة الرئيس الأميركي، التي أدركت محدودية تأثير الضربات العسكرية على إيران، تسعى إلى إغلاق بعض الجبهات المفتوحة في المنطقة، تمهيدًا لصفقة شاملة تضبط إيقاع الشرق الأوسط الجديد. وإذا كانت واشنطن قد فشلت سابقًا في إسقاط نظام الأسد بالقوة، فإنها اليوم تراهن على “تصفير الذاكرة” وإعادة هندسة النظام السوري نفسه من الداخل، عبر تحالفات تبدو أقرب إلى الخيال منها إلى السياسة.
•••
يقرأ بعض العارفين خريطة التحول في دمشق على أنها بداية لتأسيس “نظام سني معتدل” يقبل بالسلام مع إسرائيل، يفتح الباب أمام إعادة الإعمار، ويقطع جذور العلاقة مع طهران. لكن الثمن باهظ: الجولان لم يعد على الطاولة، والشعارات الكبرى عن “المقاومة والممانعة” تُدفن بهدوء في صمت المقايضات.

والسؤال هنا لا يدور فقط حول شرعية التنازل، بل حول ما إذا كانت سوريا ما بعد الأسد قادرة أصلًا على إنتاج شرعية وطنية جديدة في ظل تنازل بهذا الحجم. وهل يمكن لـ”الشرع” أن ينجو من تهمة “خيانة الجولان”، حتى وإن غلّفها بلغة الدولة والاستقرار؟ أم أن الذاكرة السورية، والعربية، ستظل تأبى الغفران؟

•••

لا يمكن قراءة هذا التقارب السوري – الإسرائيلي بمعزل عن ميزان القوى في المنطقة. فروسيا التي تغوص في المستنقع الأوكراني فقدت كثيرًا من أوراقها في سوريا، وأصبحت تلعب دور الضامن الصامت لا الراعي القوي. أما إيران، فإن خسارة سوريا – أو حتى حيادها – في معادلة الصراع مع إسرائيل، ستكون ضربة استراتيجية من العيار الثقيل، تمهّد لعزلها إقليميًا، خصوصًا إذا لحقت لبنان بتسوية مشابهة بعد الانتخابات الأميركية.
•••
تبدو القصة برمتها وكأنها إعادة تمثيل معكوسة لتاريخ سوريا الحديث: من حافظ الأسد الذي دخل مفاوضات الجولان بشروطه ولم يوقّع، إلى بشار الأسد الذي اختار المحور الإيراني وبقي خارج اللعبة، وصولًا إلى أحمد الشرع الذي قد يدخل التاريخ من بابه الخلفي، باعتباره أول زعيم سوري يعقد سلامًا شاملاً مع إسرائيل، مقابل بقائه في الحكم… لا أكثر.

ولعل القدر وحده هو من يملك هذه القدرة على السخرية: أن يكون من رفع راية الجهاد لتحرير الجولان، هو ذاته من يضع توقيعه على “نهاية الحلم”، ويُدخل سوريا نادي “السلام الإبراهيمي” تحت عنوان: “التطبيع مقابل العرش”.

تم نسخ الرابط