في لحظات تبدو فيها الإنسانية وكأنها تختبر صلابة روحها أمام المحن والكوارث، تبرز دائماً تلك الأرواح النبيلة التي تذكرنا بأن الخير لا يزال يسكن قلوب البشر رغم كل ما نراه من ظلام وبؤس في عالمنا المعاصر. ما شهدته مصر في الأيام الأخيرة من حريق سنترال رمسيس والاستجابة البطولية لرجال الحماية المدنية، إلى جانب المأساة المؤلمة لاستشهاد تسعة عشر من ملائكة البنات على الطريق الإقليمي، يقدم لنا صورة مذهلة عن التناقضات العميقة في الحياة الإنسانية.
عندما اندلعت ألسنة اللهب في سنترال رمسيس، لم تكن مجرد كارثة تقنية تهدد البنية التحتية للاتصالات، بل كانت اختباراً حقيقياً لروح التضحية والفداء التي يحملها أبطال الحماية المدنية في قلوبهم. هؤلاء الرجال الذين يقفون على خط النار الأول، حرفياً وليس مجازاً، يجسدون أسمى معاني التضحية من أجل الآخرين، إنهم يخاطرون بحياتهم ليس من أجل المجد أو الشهرة، بل من أجل قيمة مقدسة اسمها الحياة الإنسانية.
في كل مرة يرتدون فيها بدلاتهم الواقية ويحملون معداتهم نحو مسرح الكارثة، فإنهم يكتبون بأجسادهم وأرواحهم أسطورة حقيقية عن البطولة الإنسانية. لا يسألون عن هوية من يحاولون إنقاذه، لا يتوقفون عند لونه أو عقيدته أو انتمائه الاجتماعي، فقط يرون إنساناً في خطر فيهبون لنجدته، هذا النبل الفطري الذي يسكن قلوبهم يذكرنا بأن الإنسانية ليست مجرد مفهوم فلسفي مجرد، بل هي قوة حية تتجلى في أعمال البطولة اليومية للأرواح الطيبة.
إن ما قام به رجال الحماية المدنية في مواجهة حريق رمسيس يعكس التزاماً أخلاقياً عميقاً بحماية الحياة والممتلكات، وهو التزام يتماشى مع أسمى مبادئ القانون الدولي لحقوق الإنسان، فالحق في الحياة والحق في الأمان، المكفولان في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، لا يتحققان من تلقاء أنفسهما، بل يحتاجان إلى أرواح شجاعة مثل هؤلاء الأبطال لتحويلهما من نصوص قانونية إلى واقع معيش.
لكن في الوقت الذي نحتفي فيه ببطولة هؤلاء الرجال الشجعان، تدمي قلوبنا مأساة أخرى لا تقل إيلاماً، مأساة لاستشهاد أربعة من المهندسين بالشركة المصرية للاتصالات اختناقاً في هذا الحريق، وتتوالي المأساة بعد اشتهاد تسعة عشر من بناتنا الغاليات منذ أيام على الطريق الإقليمي هذا الحادث الاليم الذي ابكى قلوبنا جميعا، هؤلاء الملائكة الصغيرات اللواتي كان أمامهن مستقبل مشرق ومليء بالأحلام والآمال، تحولن في لحظة قدرية مؤلمة إلى شموع أطفئها القدر قبل أن تكمل إضاءة طريقها، كل واحدة منهن كانت تحمل في قلبها أحلاماً بريئة، وفي عينيها بريق الأمل، وفي ابتسامتها وعد بغد أفضل.
إن فقدان هؤلاء الأرواح البريئة يذكرنا بهشاشة الحياة الإنسانية وقدسيتها في الوقت نفسه، كل روح من هذه الأرواح كانت عالماً كاملاً من المشاعر والأحلام والطموحات، وكل فقدان يعني خسارة لا تعوض ليس فقط للعائلات المفجوعة، بل للمجتمع بأسره الذي فقد جزءاً من مستقبله المشرق.
هذه المآسي المتتالية تضعنا أمام تساؤلات عميقة حول مسؤولياتنا الجماعية في حماية الحياة الإنسانية وضمان السلامة العامة، من منظور القانون الدولي، فإن الدولة تتحمل التزاماً إيجابياً بحماية حياة مواطنيها وضمان سلامتهم، وهو التزام لا يقتصر على الامتناع عن الإضرار بهم، بل يشمل أيضاً اتخاذ كل الإجراءات الضرورية لمنع تعرضهم للأذى من مصادر أخرى.
هذا الالتزام الدولي بالحماية لا يتحقق فقط من خلال القوانين والأنظمة، بل يحتاج إلى التزام من كل المجتمع بالقانون، وبروح حقيقية من التفاني والتضحية مثل التي نراها في أبطال الحماية المدنية، هؤلاء الرجال يجسدون بشكل عملي ومباشر مفهوم الدولة الحامية التي تقف سداً منيعاً بين مواطنيها والأخطار التي تهددهم.
لكن البطولة الحقيقية لا تكمن فقط في مواجهة الكوارث عند حدوثها، بل تتجلى أيضاً في العمل الدؤوب لمنع حدوثها من الأساس، إن كل حريق يتم إخماده، وكل حادث يتم تجنبه، وكل حياة يتم إنقاذها، هي انتصار صغير للإنسانية في معركتها الأبدية ضد قوى الدمار والفوضى.
إن ما نحتاجه اليوم، أكثر من أي وقت مضى، هو أن نتعلم من بطولة هؤلاء الرجال الشجعان، وأن نحول حزنناً على فقدان الأرواح البريئة إلى عزيمة أقوى لحماية من لا يزالون بيننا.. نحتاج إلى أن نجعل من كل مأساة درساً في قيمة الحياة، ومن كل بطولة مصدر إلهام لمزيد من التضحية والعطاء.
إن أبطال الحماية المدنية يعلموننا أن البطولة ليست مجرد لحظة واحدة من الشجاعة، بل هي طريقة حياة تقوم على الاستعداد الدائم للتضحية من أجل الآخرين، إنهم يذكروننا بأن أعظم الانتصارات الإنسانية لا تحدث في ساحات المعارك التقليدية، بل في اللحظات التي نختار فيها أن نضع حياة الآخرين فوق حياتنا، وأن نجعل من سلامتهم هدفنا الأسمى.
في زمن تطغى فيه المصالح الشخصية والأنانية على كثير من السلوكيات الإنسانية، يأتي هؤلاء الأبطال ليذكرونا بأن التضحية من أجل الآخرين لا تزال قيمة حية ونابضة في قلوب الكثيرين، إنهم يجسدون أفضل ما في الطبيعة الإنسانية، ويقدمون لنا نموذجاً راقياً عن معنى أن تكون إنساناً حقيقياً في عالم يحتاج بشدة إلى مثل هذه النماذج.
إن تكريم هؤلاء الأبطال لا يجب أن يقتصر على الكلمات والثناء، بل يجب أن يتحول إلى التزام جماعي بدعمهم وتوفير كل ما يحتاجونه لأداء مهامهم النبيلة بأفضل صورة ممكنة، كما يجب أن نتذكر دائماً أن كل روح تُفقد في طريق الخدمة العامة هي خسارة للمجتمع بأسره، وأن حماية حماتنا مسؤولية نتحملها جميعاً.
إن حريق سنترال رمسيس لم يكن مجرد كارثة تقنية عابرة، بل كان جرس إنذار صارخ يوقظ الضمير الجماعي لضرورة وضع هذا الملف في مقدمة الأولويات الوطنية، لقد شاهدنا كيف تحولت مصر في لحظات قليلة من دولة متقدمة تعتمد على التكنولوجيا الحديثة في التعاملات المالية والخدمات الرقمية، إلى مجتمع يعود للخلف عقوداً حيث عجز المواطنون عن استخدام البطاقات الائتمانية وأجهزة الصراف الآلي وتطبيقات الدفع الإلكتروني؛
هذا التراجع المفاجئ في الخدمات الأساسية يشكل انتهاكاً واضحاً لحق المواطنين في الحصول على الخدمات العامة بكفاءة، وهو حق مكفول في المواثيق الدولية لحقوق الإنسان.
إن الدولة التي تحترم التزاماتها الدستورية والدولية تجاه مواطنيها يجب أن تضع خططاً استراتيجية شاملة لمواجهة مثل هذه الكوارث وتجنب تكرارها، فالحق في الخدمات الأساسية والبنية التحتية الآمنة ليس مجرد رفاهية اجتماعية، بل التزام قانوني وأخلاقي، المطلوب اليوم ليس فقط إصلاح الأضرار، بل وضع أنظمة احتياطية متقدمة وخطط طوارئ محكمة تضمن استمرارية الخدمات الحيوية حتى في أصعب الظروف، لأن توقف هذه الخدمات لا يعني فقط إزعاجاً مؤقتاً للمواطنين، بل يهدد النسيج الاقتصادي والاجتماعي للدولة بأكملها، ويهدد كذلك الامن القومي المصري.
في نهاية المطاف، إن ما يميز المجتمعات الحضارية ليس غياب الكوارث والمآسي عنها، فهذه جزء لا يتجزأ من طبيعة الحياة الإنسانية، وإنما قدرتها على إنتاج أرواح نبيلة قادرة على مواجهة هذه التحديات بشجاعة وتضحية، إلى جانب بناء أنظمة محكمة تحمي مواطنيها من تداعيات هذه الكوارث، وفي هذا المعيار، يمكننا أن نفخر بأن مجتمعنا لا يزال قادراً على إنجاب أمثال هؤلاء الأبطال الذين يضعون حياتهم على أكفهم من أجل حياة الآخرين، ويجعلون من خدمة الإنسانية رسالتهم الأسمى في هذه الحياة.