«خرجنا معًا.. ولم يعد».. قصة المهندس أحمد ضحية حريق سنترال رمسيس

في صمت ثقيل يخيم على المكان، جلست أسرة المهندس أحمد رجب أمام مشرحة زينهم، تترقب بأعين دامعة خروج جثمانه، لا تزال تتشبث بأمل بدا مستحيلاً: أن يخرج حيًّا، لا محمولًا في كفن أبيض.
كان أحمد رجب، أحد مهندسي سنترال رمسيس، قد لقي مصرعه في الحريق الذي اندلع مساء الإثنين الماضي في الطابق السابع من المبنى التاريخي بشارع الجمهورية وسط القاهرة، نتيجة ماس كهربائي بحسب التحقيقات الأولية.
"روحنا سوا من البيت يوم الحادث.. ونزلنا الشغل مع بعض كالعادة"، بهذه الكلمات بدأت زوجته حديثها، تحاول بصعوبة استيعاب وقع الفاجعة، بينما تتردد في ذاكرتها تفاصيل صباح ذلك اليوم.
كان وقت الصلاة، نزل أحمد ليتوضأ، وترك هاتفه على مكتبه، غير مدرك أن تلك ستكون آخر لحظاته في الحياة.
دخان يتسلل.. وأمل يتلاشى
مع تصاعد ألسنة الدخان في الطابق السابع، لم يتمكن أحمد من العودة، فاحتمى مع زميل له داخل غرفة مغلقة، قبل أن ينضم إليهما موظفان آخران. حاولوا الاحتماء، وانتظروا فرق الإنقاذ، لكن الدخان الكثيف سبقهم، وكان أسرع من أي نجدة.
"ماتوا وهم مستنيين حد ينقذهم.. ماتوا وإحنا مش مستعدين"، قالت الزوجة، محاوِلة كتم دموعها، وأضافت:
"كان كل همنا نربي أولادنا تربية محترمة، نوفر لهم اللي إحنا اتحرمنا منه. دلوقتي بقيت لوحدي، والمسؤولية كلها فوق كتافي."
الضحية، المهندس أحمد رجب، لم يكن مجرد موظف في السنترال، بل أحد ركائزه الأساسية، بسنوات طويلة من الخبرة والعمل الجاد، وفقًا لزملائه.
حريق في قلب البنية التحتية
حريق سنترال رمسيس، أحد أقدم مقار البنية التحتية للاتصالات في مصر، كشف عن هشاشة معايير السلامة في منشآت حيوية. فقد اندلعت النيران في الطابق السابع من المبنى التابع لوزارة الاتصالات، وأثارت الحادثة حالة من الغضب الشعبي، وسط تساؤلات عن غياب أنظمة الإنذار المبكر ومعدات مكافحة الحرائق.
ووفقًا للمعاينة الأولية، فقد تسبب ماس كهربائي في اندلاع النيران، قبل أن تمتد الأدخنة وتحاصر العاملين في الأدوار العليا.
رحيل موجع.. ومسؤوليات باقية
برحيل المهندس أحمد، خسرت أسرته معيلها الوحيد، بينما يبقى الحادث شاهدًا على غياب الحد الأدنى من إجراءات الأمان في منشآت يفترض أن تكون نموذجًا للجاهزية التكنولوجية.
"محدش هيرجع أحمد، بس لازم نعرف ليه مات.. ولازم اللي حصل ما يتكررش"، تختم زوجته، وسط صدمة لا تزال تعصف بجدران قلبها وقلب أطفالها الثلاثة.
الحماية المدنية دفعت 20 سيارة إطفاء 5سلالم هيدروليكيه، لكن النيران استمرت لما يقرب من 20 ساعة، وتجددت اربع مرات رغم عمليات التبريد، حتى تم إخمادها بالكامل.
خلف الحريق وراءه 4 ضحايا و27 مصابًا، بينهم 10 من رجال الشرطة. أما الضحايا الأربعة، فتم العثور عليهم داخل غرفة مغلقة، كانوا فيها يحاولون النجاة، لكن الموت خنقهم قبل أن تمتد إليهم يد الإنقاذ.
في المشرحة، لا تزال الزوجة تلتفت كل بضع دقائق نحو الباب. لم تعتد وداعًا كهذا، ولا كلمات تليق بنهاية زوجها، لكن ما تعرفه جيدًا، أن قلبها احترق كما احترق سنترال رمسيس، وأن الحياة بعد أحمد لن تعود كما كانت.
معاينة موقع الحادث
تلقت النيابة العامة إخطارًا من قسم شرطة الأزبكية بنشوب حريق هائل بمبنى سنترال رمسيس التابع للشركة المصرية للاتصالات.
وعلى الفور انتقل المحامي العام لنيابة شمال القاهرة الكلية، يرافقه فريق من أعضاء النيابة العامة، لإجراء المعاينة لموقع الحادث من الخارج، حيث تبين من المعاينة الأولية نشوب الحريق بالمبنى الرئيسي للسنترال، والمكون من أحد عشر طابقًا، وبالمبنى الملحق به المخصَّص للاتصالات الدولية، والمكون من ستة طوابق.
وانتقل فريق آخر من أعضاء النيابة العامة إلى المستشفيات المحيطة بمكان الحادث، لسماع أقوال من أمكن سؤالهم من المصابين، والبالغ عددهم حتى الآن واحدًا وعشرين مصابًا.
وقد ناظرت النيابة العامة جثامين أربعة متوفين، وندبت مصلحة الطب الشرعي لتوقيع الكشف الظاهري عليهم، لبيان أسباب الوفاة وكيفية حدوثها، وسحب عينات الحمض النووي منهم.
وجار استكمال التحقيقات وصولًا إلى أسباب اندلاع الحريق، والوقوف على مدى توافر إجراءات السلامة والصحة المهنية، ومدى مراعاة اشتراطات الحماية المدنية والحريق، وستُعاود النيابة العامة معاينة موقع الحريق من الداخل فور انتهاء قوات الحماية المدنية من أعمال الإطفاء والتبريد.
وفي بيان آخر قررت النيابة العامة حبس 11 سائقًا لتعمدهم السير عكس الاتجاه بالطريق العام في العاشر من رمضان وتعريض حياة المواطنين للخطر.
وذلك في ضوء ما تم تداوله عبر وسائل التواصل الاجتماعي ، وما رصدته وزارة الداخلية من تداول مقطع مصور، أظهر قيام قائدي إحدى عشرة سيارة ، من بينها مركبات ميكروباص وأتوبيس خاص ، بالسير عكس الاتجاه في الطريق العام، وذلك بطريق العاشر من رمضان في اتجاه مدينة بلبيس، بما يشكل خطرًا بالغًا على أرواح المواطنين ومستخدمي الطريق، فقد أجرت الشرطة تحريات عاجلة أسفرت عن تحديد المركبات وضبط قائديها.
وقد باشرت النيابة العامة التحقيقات، واستجوبت المتهمين بشأن ما نُسب إليهم من اتهامات بتعمد السير عكس الاتجاه وتعريض حياة المواطنين للخطر، وأمرت بعرضهم على صندوق مكافحة وعلاج الإدمان لإجراء التحاليل اللازمة للكشف عن تعاطي المواد المخدرة، فتبين تعاطي سائقَيْن منهم لجوهر الحشيش المخدر.
كما طلبت النيابة العامة تحريات مباحث المرور حول الواقعة، وقد أسفرت عن صحة ارتكاب المتهمين لها، وكلفت الجهات الفنية المختصة بفحص المركبات المتحفظ عليها فنيًا وأمنيًا، وأصدرت قرارها بحبس السائقين أربعة أيام احتياطيًا، وجار استكمال التحقيقات.