حكاية لا تموت
ديربي كازابلانكا.. "رجاء" الشعب و "وداد" الأمة محرابى الجنون الكروي بالمغرب

في قلب الدار البيضاء و بالتحديد " كازابلانكا"، حيث تتقاطع الحارات الضيقة مع صدى التاريخ، يبدأ كل شيء من هناك، من درب السلطان، الحي الذي لا ينام، والذي تُحاك فيه أول خيوط العشق الكروي، وتُشعل شرارة العداء الأبدي بين الوداد و الرجاء، في تلك الأزقة المزدحمة برائحة النعناع والبارود الكروي، وُلدت قصص لا تُروى إلا همسًا في مقاهي الحي، حيث يقف الزمن احترامًا للديربي.
من درب السلطان إلى مقهى بويا صالح.. حين يصبح الهدف طعنة والفرحة انتقامًا مقدسًا
الأمر يزداد إثارة، في زاوية شبه مظلمة، و بالتحديد في مقهى "بويا صالح" التاريخي ، هو ليس مجرد مقهى، بل محراب للجنون الكروي، مجلس الحكماء والمجانين على حد سواء، فيه تُعاد كل مباراة من الذاكرة، كل هدف يُروى وكأنه انتصار في معركة، وكل هزيمة تُنكر وكأنها مؤامرة، على كراسيه المتأكلة، جلس عجوز ودادي يسُب الدهر كلما مر هدف للأخضر في مخيلته، وبجواره شاب رجاوي يقسم أن "الخضراء"هي من تُسيّر الكرة في هذا البلد، هناك تبدأ الحكاية.
أكبر من مجرد مباراة .. ديربي كازا " طقس مقدس"
في كازابلانكا، الأمر أكبر من كونه مباراة، بل طقس مقدس، له أوانه و يحكمه قوانينه، إنه اليوم الذي تتوقف فيه الدار البيضاء عن نبضها المعتاد، لتبدأ بالخفقان على إيقاع الصيحات، والجدالات، والأهازيج، يوم تتحول فيه الأرصفة إلى مدرجات، والجدران إلى دفاتر سِباب وأمنيات، هو اليوم الذي يُولد فيه البطل من هدف في الدقيقة التسعين، ويموت فيه أسطورة بسبب خطأ في تمريرة.
من درب السلطان، حيث الرجاء نبتت من تربة الحي الشعبي، إلى قلب كازا حيث تأسس الوداد كصرخة نخبوية ضد المستعمر، تبدأ القصة ولا تنتهي، بين "بويا صالح ، كريتي و المدينة القديمة”، تُرفع الرايات، وتُصاغ الهتافات، وتُغزل الكراهية بخيوط العشق لكرةٍ وحدها قادرة على جمع الشتات ، ثم تفريقه.
صوت العاطفة عنوان الديربي
ديربي كازا، حيث لا صوت يعلو فوق صوت العاطفة، ولا لون يعلو فوق الأخضر أو الأحمر، إما أن تكون وداديًا وتخون صديقك الرجاوي، أو أن تكون رجاويًا وتنسى أخاك الودادي، على الأقل لمدة 90 دقيقة، وقد تمتد مدى الحياة.
البداية .. كرة القدم تُحدث انقسامًا مجتمعيًا
يرجع أصل العداء بين العملاقين إلى منتصف القرن الماضي، وتحديدًا إلى سنوات الاستعمار الفرنسي، تأسس الوداد سنة 1937 من طبقة ميسورة تمثلت في نخبة وطنية كانت تسعى للتعبير عن الهوية المغربية في وجه الاحتلال، في المقابل، جاء تأسيس الرجاء سنة 1949 على يد نقابيين ومثقفين ينتمون إلى الطبقات الشعبية، وكان هدفهم دعم الحراك الاجتماعي والتعبير عن صوت الشارع.
منذ البداية، لم تكن المنافسة كروية فقط، بل حملت طابعًا اجتماعيًا، الجماهير انقسمت بدورها بين من يرى في الوداد تمثيلاً للطبقة المخملية، ومن يعتبر الرجاء صوت الجماهير الكادحة، ومع مرور الوقت، تحولت هذه الخلفيات إلى نار تحت الرماد، لا تلبث أن تشتعل مع كل ديربي.
العداء التاريخي.. تصاعد يزداد توتر
بدأت المواجهات بين الفريقين بشكل رسمي منذ خمسينات القرن الماضي، لكن وتيرة العداء تصاعدت تدريجيًا مع ازدياد أهمية المباريات بينهما، في سبعينات وثمانينات القرن المنقضي، أصبحت اللقاءات بين الوداد والرجاء أحداثًا وطنية، تتوقف عندها الأنفاس، وتحتشد الجماهير على أهبة الإستعداد و الحماس في مركب محمد الخامس بالدار البيضاء.
أبرز لحظات العداء التاريخي
من أبرز لحظات العداء، مباراة عام 1978، التي شهدت اشتباكات عنيفة بين اللاعبين، أعقبتها أحداث شغب في المدرجات، و تكرر الأمر ذاته في مباراة عام 1996، حين تسبب هدف متأخر للرجاء في فوز قاتل أشعل اشتباكات جماهيرية استمرت لساعات بعد صافرة النهاية، بينما جاء عام 2013، ليشهد الديربي أحد أشهر الاعتداءات الجماهيرية على الصحفيين، مما أثار جدلاً واسعًا حول الانفلات الأمني المحيط بالمباريات.
ديربي البطولة العربية.. فيلم درامي لا يُنسى
لكن أكثر اللحظات سخونة كانت في نصف نهائي كأس محمد السادس للأندية العربية في 2020، حيث انتهت مباراة الذهاب بالتعادل الإيجابي بهدف لكل فريق، وجاءت مباراة الإياب لتكتب أكثر اللحظات التاريخية إثارة في مواجهات قطبي الكرة المغربية و التي انتهت بالتعادل الإيجابي بأربعة أهداف لكل فريق في مباراة مجنونة، أطاحت بالوداد و صعدت بالرجاء للمباراة النهائية.، كانت تلك المباراة بمثابة فيلم درامي لا يُنسى.
انتصارات لها وقع خاص
منذ أول مباراة ديربي رسمية سنة 1957، تقابل الغريمان في أكثر من 130 مباراة بين الدوري والكأس والمسابقات القارية، أحد أكبر الانتصارات في تاريخ الديربي كان فوز الوداد بنتيجة خمسة أهداف مقابل هدف واحد ، و بالتحديد في عام 1957، وهي نتيجة لم و لن تُنسى في أرشيف الرجا.
لكن النسر الأخضر، لم يكتفي بالتحليق، بل رد الصاع في مناسبات عدة، أبرزها فوزه بثلاثية بيضاء في ديربي عام 1996، الذي اعتُبر رمزًا للهيمنة الرجاوية انذاك، أما أكثر المباريات إثارة، فلا شك أن ديربي نصف نهائي البطولة العربية في عام 2020، إذ شهد عودة تاريخية للأخضر في الدقائق الأخيرة، برأسية بن مالانجو ، و التي أطاحت بالوداد خارج البطولة.
نجوم صنعوا التاريخ
عبر العقود المتتالية، مرّ على الفريقين عدد كبير من النجوم الذين تركوا بصمة واضحة في تاريخ الكرة المغربية، من جهة القلعة الخضراء، تألق أسماء عديدة لعل أبرزها، عبد المجيد الظلمي، الذي يعتبر أحد أساطير الكرة المغربية، إلى جانب صلاح الدين بصير، نجم مونديال فرنسا 1998، ومصطفى الحداوي، بالإضافة إلى النجم بوشعيب المباركي.
أما القلعة الحمراء، فقد لمع فيه نجم فخر الدين رجحي، ونور الدين نايبت، الذي بدأ مسيرته في الواك قبل أن يتألق أوروبيا رفقة ديبورتيفو لاكورونيا الأسباني، إضافة إلى عزيز بودربالة، وأحمد فرس، أول لاعب مغربي يتوج بجائزة أفضل لاعب أفريقي.
نجوم بين الغريمين.. خيانة أم احتراف
من الأمور المثيرة في ديربي الدار البيضاء هو عدد اللاعبين الذين ارتدوا قميصي الوداد والرجاء، في مسار محفوف بالجدل بل وصل إلى حد الإتهام بالخيانة، من أبرز هؤلاء هشام بو شروان، الذي لعب للنسر الرجاوي ثم انتقل إلى القلعة الودادية، كذلك، أمين الرباطي، قائد الرجا السابق، خاض تجربة قصيرة في صفوف القلعة الحمراء.
لكن أكثر الانتقالات ضجة كانت تلك التي قام بها زكرياء الهاشمي، لاعب الرجاء السابق، والذي انتقل إلى الوداد وسط احتجاجات جماهيرية، واعتبره البعض خائنًا.
الديربي أكثر من مجرد مباراة
يبقى ديربي كازا بين الوداد والرجاء حالة استثنائية في عالم كرة القدم، هو ليس فقط صراعًا على النقاط الثلاث، بل هو معركة رمزية بين تاريخين، جمهورين، وهويتين، وبينما يتغير اللاعبون والمدربون، تبقى نار العداء مشتعلة، تنتظر فقط صافرة البداية لتشتعل في المدرجات و الأزقة.