عاجل

حين نراقب أبناءنا في تفاصيل يومهم - في أسئلتهم، سلوكهم، اهتماماتهم، وحتى في احتجاجاتهم الصامتة - يخطر في بالنا سؤال جوهري: هل نحن نربي أبناءنا لعالمٍ يشبه العالم الذي نشأنا فيه، أم أننا دون أن نشعر نحاول تشكيلهم داخل قوالب لم تعد صالحة لعصرهم؟

ليس هذا السؤال ترفًا فكريًا، بل ضرورة تربوية وإنسانية تفرضها متغيرات الزمن، وتعكسها الفجوة التي تتسع بين الأجيال عامًا بعد عام.

لقد تغيرت ملامح العالم بصورة جذرية. لم يعد الأب مصدر المعرفة الوحيد، ولا المعلم صاحب الكلمة الأخيرة. نشأنا في زمن كانت فيه الحياة تسير بإيقاع بطيء، وكانت القيم تترسخ من خلال الاحتكاك المباشر بالمجتمع والأسرة والمدرسة. كنا ننتظر كثيرًا لنتعلم، نخطئ لنفهم، ونصبر طويلاً حتى يتاح لنا أن نعبر عن ذواتنا. لكن أبناءنا اليوم يعيشون في عالم رقمي سريع ومفتوح على كل الثقافات والأفكار والتجارب. عالم يتشكل داخل الشاشات، وتُصاغ فيه الهويات بشكل لحظي، وتتكون فيه القيم بتأثير المحتوى أكثر من الأسرة.

ورغم هذا التحوّل، لا يزال كثير من الآباء يمارسون التربية بنفس الأدوات والمفاهيم التي نشأوا عليها، وكأن الزمن لم يتغير، وكأننا نحاول أن نغرس شجرة استوائية في تربة صحراوية.

التحولات ليست فقط في الوسائل، بل أيضًا في القيم والسياقات النفسية. نحن جيل تربى على الطاعة والخوف من العقاب وكتمان المشاعر. كنا نُحذَّر من التعبير عن الغضب أو الضعف أو الأسئلة "الكبيرة". أما الجيل الجديد، فقد نشأ في مناخ عالمي يعلي من قيمة الفرد، ويمنحه المساحة للتعبير عن نفسه، والسؤال، والنقاش، والرفض، والمطالبة بالخصوصية. إن أبناء اليوم لا يقاسون على مقاييسنا النفسية والاجتماعية القديمة. لديهم مفاهيم جديدة للهوية، للحرية، للعلاقات، للسلطة، وحتى للنجاح والفشل.

لكنّ المأساة أن بعض المربين ما زالوا يتعاملون مع هذه الفجوة وكأنها تمرد يجب قمعه، لا تغير ينبغي فهمه. إننا لا نملك أن نمنع أبناءنا من الانكشاف على هذا العالم المترامي، لكننا نملك أن نمنحهم أدوات الفهم، والقدرة على التمييز، والوعي بقيم الإنسان وكرامته ومسؤوليته. لم تعد التربية مجرد تلقين للصحيح والخطأ، بل غدت مرافقة حانية وسط ضجيج المعارف، وعينًا حكيمة تزرع الضمير في قلب متغيرات سريعة، وتغرس الثوابت بمرونة تتفهم تعقيدات الحاضر.

بعض الآباء، دون قصد، يعيشون داخل حنين دائم إلى زمنهم الخاص، ويتمنون أن يُعيد أبناؤهم إنتاج هذا الزمن. لكن هذه الرغبة - مهما كانت صادقة - ليست تربوية. فالأبناء ليسوا امتدادًا حرفيًا لآبائهم، بل هم مشروع مختلف بالكامل، بعالم مختلف، وتحديات مختلفة. إن التربية بالحنين إلى الماضي لا تنتج إنسانًا قادرًا على المستقبل، بل تُنتج إنسانًا ممزقًا بين زمنين، لا ينتمي لأي منهما.

إننا بحاجة ماسة إلى تربية ذكية ومرنة؛ تربية تؤمن بالحوار لا بالتلقين، وبالقدوة لا بالأوامر، وبالفهم لا بالحكم. الأبناء اليوم لا يبحثون عن "مثالية شكلية"، بل عن "معنى حقيقي" يجعلهم قادرين على الوقوف وسط التيارات المتلاطمة دون أن يفقدوا ذواتهم. وهذا لا يتحقق إلا إذا كانت تربيتنا تربط الجذور بالقيم، وتترك للفروع حرية النمو باتجاه النور، لا أن تقصها كلما تجاوزت حدودًا رسمها الماضي.

التربية لم تكن يومًا نسخًا كربونية من جيل إلى آخر. هي دومًا فعل استباقي، وبوصلة نحو المستقبل. وأبناؤنا، في نهاية المطاف، لن يعيشوا حياتنا من جديد، ولن يواجهوا التحديات ذاتها. هم سيصنعون عالمهم، ونحن يجب أن نُعدهم لذلك، لا أن نقيدهم بماضٍ لن يعود.

نعم، نحن نربي أبناءنا في عالم لا يشبه عالمنا، وهذه ليست مأساة بل فرصة؛ فرصة لنربي إنسانًا قادرًا على التعايش، على الفهم، على الصدق مع ذاته ومع غيره، وقبل كل شيء على أن يكون ابنًا للزمن الذي يعيش فيه، لا سجينًا لزمنٍ مضى.

تم نسخ الرابط