تحدث الناس كثيرًا عن أن نعمة النسيان من أفضل النعم على البشر، وكم من شعراء قالوا الكثير عن النسيان وفضائله ومساوئه أيضًا. الأدب حافل بموسوعات قصصية تكلمت بلسان أبطالها عن ما جلبه النسيان من نعم وعطايا، بينما ذكر آخرون في رواياتهم أن النسيان هو أسوأ شيء ابتلي به البشر.
في الأدب اليوناني وخيالات الكتاب، تم تناول موضوع النسيان بشكل واسع، بل إنهم تركوا أساطير كثيرة تتحدث عن أن إله الكون حكم على البشر كعقاب على أعمالهم وعصيانهم بحكمين: أحدهما النسيان والآخر التذكر وحفظ كل شيء. في هذه الأسطورة الخالدة، يصور لنا الكاتب حال من حكم عليهم بالنسيان بالألم النفسي الشديد والحزن الذي لا ينتهي. بعضهم صار يصرخ لأنه لا يتذكر شيئًا، ويستعطف الخالق أن يعيد إليه ذاكرته، حتى وإن كان ماضيه مليئًا بالأحزان والفقد والخيانة.
على الجانب الآخر، من عوقبوا بالتذكر وعدم النسيان انقسموا إلى قسمين: أحدهما سعيد جدًا بذاكرته الفولاذية التي لا تنسى صغيرة أو كبيرة، على الرغم مما يحمله التذكر من علامات استفهام ورغبات مكبوتة. بينما الجزء الآخر يدعو الإله في كل حين ووقت بأن ينعم عليه بالنسيان، لأنه لم يعد يتحمل مرارة تذكر كل صغيرة وكبيرة وكل أذى وحرمان تسبب به أو كان سببًا له.
كان المنعمون بالنسيان والمبتلون بالتذكر يخرجون كل صباح إلى أطراف المدينة، يناجون الله ويطلبون منه أن يعفو عنهم ويرفع مقته وغضبه عليهم. وفي المساء، كان يتكرر نفس المشهد، وتسمع نفس الأصوات والنحيب والابتهال إلى الإله بأن يرحمهم من هذا البلاء.
يمضي التاريخ بما كتب فيه وما يتخيله الأدباء والشعراء، وما سطره الفلاسفة إلى مرحلة تفسير علماء النفس للنسيان. يؤكدون أن حالات كثيرة كان علاجها الرحيم يأتي بالنسيان، بأن ينسى المريض أو حتى يتناسى ما حل به ليتمكن من النهوض مرة أخرى. بينما يوجد أطباء آخرون يرون عكس ذلك، ويؤكدون أن النسيان ليس حلاً للمشاكل النفسية، بل إنه يجعلها معطلة، ويشبه تأثير المخدر الذي يجعل المريض ناسياً لآلامه لفترة. لكن فور انتهاء تأثير المخدر، تصبح حالة المريض صعبة المراس وعصيّة الشفاء.
بين كل هذه الآراء، يقول الواقع كلمته بأن النسيان نعمة مهما كان أثرها. فالنسيان يطوي آلام هجر الأحباب وموتهم، ويعيد لنا الذكريات الجميلة التي عشناها. بالنسيان نحيا وننهض ونقاوم ونتحدى. تحيا نعمة النسيان، وتبا للتذكر وما يتركه فينا من حزن وشوق وألم.