التف حول صاحبنا الكثير، هذا صديقي وهذا رفيقي وهذا "عشرة عمري"، هكذا كان يقول دائما، استمر الحال على هذا كثيرا، وستستمر مادام يقدم لهم ما يطلبونه دائمًا، هو يقدم ذلك دون أي غرض إلا لأنهم أصدقاؤه المقربون "كما يظن"، وفي يوم تبدل الحال، لم يعد صاحبنا قادرا على العطاء كما كان، تغيرت ظروفه أصبح في حاجتهم بدلا من أن كان يعطيهم، تذكر صاحبنا "عشرة عمره"، هرول إليهم طالبا المساعدة، كانوا كثيرين، تهرّب منه الكثير وخذله الكثير، تعاطف معه القليل ووقف بجانبه اثنان فقط من كل هؤلاء، أدرك صاحبنا أن الصداقة ليست بالعدد الكثير، وأن العزوة الزائفة لا تفيد ما دامت تقوم على المصلحة.
إذا تحث أحد منا مع والده أو جده سيحكي له عن "أيام زمان"، وعن صدق العلاقات القائمة بين الناس خاصة الصداقة، سيحكي له طيبة القلوب، وصفاء النفوس، وكم كان الناس يحبون بعضهم البعض بدون أي مصلحة أو مقابل، وهنا أتخيل نفسي إذا أمد الله في عمري حتى الـ 70 مثلا، ماذا سأحكي لأحفادي عن هذه الفترة التي نعيشها، ماذا سأقول لهم عن تلك النفوس المريضة الثعبانية التي تحيط بنا من كل مكان.. والله أستحي!!
العلاقات الإنسانية أصبحت تمر بتحولات جوهرية، والصداقات لم تعد تُبنى على أسس متينة من الود والصدق والوفاء، بل أصبحت في كثير من الأحيان تقوم على المصالح المتبادلة. ومع هذا التغير، بدأت تظهر حقيقة مؤلمة: أن كثرة الأصدقاء لا تعني بالضرورة كثرة الداعمين، بل قد تعني ببساطة زيادة عدد من يعرفونك لأجل غرضٍ ما، لا لأجلك أنت.
العلاقات التي تُبنى على المصلحة هي علاقات ظاهرها الود، وباطنها استغلال متبادل. شخص يعرفك لأنه يريد خدمة، أو يستفيد من منصبك، أو يحتمي بعلاقاتك، أو حتى يُزين صورته الاجتماعية بوجودك حوله.
هذه الصداقات ليست مستقرة ولا طويلة الأمد. فهي تنتهي بمجرد انتهاء المصلحة، وتختفي كما تختفي فقاعات الصابون. بل الأسوأ من ذلك، أنها قد تُظهِر وجهًا آخر في لحظة الحقيقة، عندما تحتاج لهذا الصديق في موقف حقيقي فلا تجده، أو تجده أول من يتخلى عنك.
يعتقد البعض أن وجود عدد كبير من الأصدقاء هو دليل على النجاح الاجتماعي أو القبول المجتمعي، لكن الواقع يثبت العكس. فالكثرة قد تُغنيك بالمظهر لا بالجوهر. قد تحيط بك ضجة من الأسماء والأشخاص، لكن حين تحتاج لمن يقف بجانبك بصدق، تكتشف أن الصمت هو سيد الموقف.
الصداقة الحقيقية لا تُقاس بعدد الرسائل التي تصلك، ولا بعدد اللايكات على منشوراتك، بل تُقاس بعدد الأيادي التي تمتد إليك حين تسقط، وبعدد القلوب التي تسعد لفرحك وتحزن لحزنك بصدق، دون مقابل.
من الحكمة أن يُراجع الإنسان دائرة علاقاته من وقت لآخر. ليس المطلوب الانعزال، بل التمييز بين من يحبك لذاتك ومن يعرفك لحاجته. من يقف معك لأنك صديق، ومن يقف بجانبك لأنه ينتفع من وقوفه.
في زمن العلاقات السريعة والمجاملات الزائفة، الصديق الحقيقي هو كنز نادر، وجوده راحة، وغيابه فراغ لا يُملأ. لذلك، لا تبحث عن العدد، بل عن القيمة. ولا تُرهق نفسك بمحاولة إرضاء الجميع، فالمصلحة لا تُرضى إلا حين تخدم نفسها.